موضوع: خداع النفس ! الإثنين نوفمبر 05, 2012 2:33 pm
خداع النفس ! (قصة قصيرة)
أحبَّها كثيرًا، وسَكَبَ أرقَّ كلمات الحب وأشْعار الغزَل في مسامعها، كان يرى في وجهِها الوسيم روْعة الشَّمس، وفِي قامتها الممْشوقة جمال شجر الصَّفصاف، وفي كلامِها الهامس صوتَ البلابل، كانت محبَّتها تتدفَّق في كيانِه كما يتدفَّق جدول الماء العذْب فوق الأرض الخصبة.
وليس ذلك فحسب، ولكنَّه كان يحنو عليها ويُداريها كما تُداري الأمُّ وليدها، ويُحقِّقُ لها جميعَ مطالبها.
وعندما يعود من عمله مبكرًا كان يساعدُها في إعدادِ وجبة الغداء، وترتيبِ المنزل، وتبلُغُ سعادتُه حدَّ الذروة عندما تَبتَسِمُ له؛ لأنَّ ابتسامتَها تَعدِلُ عنده كُنوز الأرض، ورُبَّما أكثر من ذلك، هذا إن تكرَّمت حضرة زوجتِه المصون "فاتن " ومنحتْه ابتسامة من ثغرِها الشَّحيح في الشَّهر مرَّة، وربَّما في السَّنة مرَّة.
إنَّ الذنب الذي يدفع عليٌّ لأجله كلَّ هذه الكفَّارات في نظر فاتن أنَّه دميمُ الخِلْقة وقصيرُ القامة.
ولم تُقنِع أخلاقُه العالية وثقافتُه المتميِّزة طُموحات زوجتِه وأحلامَها الجوفاء، التي لا تنفدُ إلى عُمق الأشياء وجوهرها؛ ولكنَّها تقفُ عند المظاهر، وتُمجِّدُ القُشور والزَّخارف.
تُقرُّ فاتن بدماثة أخلاق زوجِها، وتعترف بحُسنِ معاملته معها، واتِّزانه ووقاره واحترامِه لأهلها وإخوتها، ولكنَّ تَعليقات زميلاتها في المدرسة وانتقاداتهنَّ اللاَّذعة لِزوجها - بِمناسبة ومن غير مناسبة - سَبَّبت لها مُشكلةً وعقدةً نفسيَّة تجاهه.
خُلود أقربُ المعلماتِ إلى قلب فاتن، وأكثرهن تأثيرًا عليها؛ فَهي من أترابها في معْهد الجامعة، وكانت تستشيرُها في كلِّ صغيرة وكبيرة، وعندما سألتْها فاتن عن رأيها في زوجها قالت: هذه حياتُك، وأنا لا أتدخَّل فيها، ولكن أنا شخصيًّا أفضِّلُ أن أبقى عذراءَ على الزَّواج من أمثال زوجك.
أتذْكرين يوم قلتُ لك ذلك عندما تقدَّم لخطبتك؟ هزَّت فاتن رأسَها وقالت: أذكر تمامًا، ولكن.. سامح الله أمي.
أردفت خلود قائلة: الإنسان يَعيشُ مرَّةً واحدة، والزَّواج الأوَّل بالنِّسبة للمرأة هو إمَّا نارُها أو جنَّتها. زلزلتْ كلماتُ خلود كيانَ فاتن، وحوَّلت لحظات عمرِها إلى إشارات استفهامٍ متعاقبة، وإلى أنواعٍ مختلفةٍ من الشرود والتفكير.
ذهبت فاتن إلى البيت مُثقلَةً بالألم والنَّدم بسبب اقترانِها بالمحامي علي، ولدى وصُولها كان زوجُها قد أحضرَ لها وجبةَ غداءٍ جاهزةً.
هَمَّت فاتن بالدخول إلى المطبخ لإعداد الطَّعام، فقال علي ووجهُه يتهلَّل فرحًا ورضًا: أحضرتُ لحبيبتي أكلةً تُحبُّها كثيرًا. ردَّت فاتن ببرودٍ شديد: لا داعي لذلك.
تنهَّد عليٌّ، وقال: اشتهيتُ لك اللَّحم المشويَّ لأنَّك تحبِّينه، ويُسعدني أن تُشاركيني الغداء. أكلَت فاتن مع زوجها بِضعَ لقَيمات على سبيل المجاملة، وذهبت إلى النَّوم غير عابئة بالأحاسيس المرْهفة والمشاعر النَّبيلة التي راحت تتحطَّمُ في نفسِ عليٍّ، الذي راح يُكلِّمُ نفسَه ويقتاتُ الألم الذي يُمزِّق خيوطَ تفكيره، وَيسرقُ الهناء والاستِقرار من نفسه الطيِّبة التي تحلم بحياةٍ زوجيَّة مستقرَّة طَوال الوقت.
في المساء ذهبت فاتن إلى أمِّها تُخبرها بِعدم سعادتها مع زوجها، وأكَّدت لها أنَّ الأيامَ التي تعيشُها مع زوجها أشبهُ بمن يَدفِنُ نفسه حيًّا. تفاجأت الأمُّ بما سمعتْه من ابنتها، ورَدَّت عليها بِقوَّة وحزم قائلةً: يا بنتي، إنَّ زوجَك رجلٌ مُحترم ومُحامٍ ناجح، والجميعُ يَشهد له بالنَّزاهة والاستقامة في الوقت الذي عَزَّت فيه المُثُل، واضمحلَّت القيم، وليس أدلُّ على اضمحلالها من حديثِك الذي تفاجئينني به، ثمَّ ما الَّذي حدث لك فقد مرَّ على زواجك به أكثر من سنتين؟!
بَرَّرت فاتن عدمَ سعادتها مع زوجها بمبرِّرات واهية! لم يَعُد أمرُ فاتن بِخافٍ على أحدٍ من أهالي الحيِّ ومعلمات المدرسة ومعلميها، ولم يَعد التعبير عن الاشمئزاز من الحياةِ الزوجيَّة المريرة - على حدِّ زعم فاتن - يَقتصرُ على الشكاوى بالكلِمات، ولكنَّه تجاوزَ ذلك إلى امتناعٍ عن الطَّعام وحالةٍ من اليَأس والقُنوط رسمَت ظلالهَا على وجهِها، وانعكست سلبيًّا على أدائِها في عملها.
أمَّا معاناةُ عليٍّ فهي من نوعٍ آخر، حيث كان يَحترقُ وهو صامت، ويُداوي جِراح الناس ونزفُ جراحه لا يتوقَّف ولا ينضَب، ولكَم كان يَحزُّ في نفسه أن تُثارَ مُشكلتُه مع زوجتِه وهو حلاَّل المشكلات التي يَعجِزُ عنها كِبارُ المحامين!
كان يدعو الله أن يهديَ زوجتَه، وأن تَحملَ بولدٍ يُقَرِّبُ الفجْوة ما بينه وبينها.
استشار الأشقَّاء والأصدقاء، وعرض أمرَه على العُقلاء، وكان الجميع ينصحه بالصَّبر، والحكمة لعلَّ الله يهْدي زوجته.
جَلَس علي معها ذاتَ مرَّة جِلسةَ مكاشفةٍ وشفافية، وتحدَّث إليها بصراحة وقال لها:هل من شيءٍ في نفسك تُريدين البوح به؟ أمُقصِّرٌ أنا بِحقِّك؟ فكانت تُجيبُ قائلة: لا، أنت زوج كريم، وخلوق.
عندئذ قال علي: أقترحُ أن تذهبي لبيتِ أهلِك، وتُمضي عندهم يومين أو ثلاثة لعلَّ أعصابك تَهدأ قليلاً. لَملَمت فاتن أشياءَها، وخَرجتْ خروجَ مَن لا ينوي العودة، بينما ظلَّ عليٌّ يَذرفُ دموعَ الألم، ويَستافُ رائحةَ الفراقِ من جَنَبات حقائبِ فاتن المعطَّرة.
تدخَّل أبو فاتنٍ بالأمْر بعد أن اجتمعَ بعليٍّ، وتأكَّد من محبَّته وتعلُّقه بابنتِه، ولكنَّ موقفَ فاتن والحِيَل التي كانت ترسمها جعلت والديْها يخافان على صحَّتها، وبالتَّالي يُوافقان على فضِّ الميثاق الغليظِ بينها وبين زوجِها.
كان عليٌّ يفهم ما يدور حوله بدقَّة، إذ لم تمضِ أيَّامٌ عدَّة حتَّى أرسلَ ورقةَ الطَّلاق إلى فاتن مع إحدى المعلِّمات في المدرسة، كانت ورقة الطَّلاق هدية ثمينة طالما انتظرتْها فاتن.
هاهي قد تَنَفَّست الصُّعداء،وعادتْ خيوط الأملِ والتَّفاؤل تنسجُ شمسًا جديدةً ومشرقةً في آفاق عالمها الجديد، لقد انجاب كابوسُ الليلِ المُخيف عن شُبَّاك قلبِها الحائر ليحلَّ محلَّه بُلبُلٌ زاهي الألوان ورائع الألحان.
ذهبت فاتنُ في اليوم التَّالي، وقد اكتست بِحلَّة من فاخِر الثياب، وكأنَّها تحرَّرت من قيودِ التَّعاسة، ومن شراك الآلام، وكانت صديقتُها خلود لا تقِلُّ سعادةً عنها؛ لأنَّ موازينَ تقْييمِ النَّاس عندَ خلود لا تتجاوزُ حدودَ القدِّ الممشوق، والشعر اللاَّفت، والعطر الجذَّاب، والمظاهر الخادعة.
تولَّت خلود صديقتها فاتن بالنُّصح الهدَّام، وبدأت تعزفُ على وترِ الشَّاب سامرٍ ابن ثريِّ المدينة الذي خدعَ غيرَ واحدةٍ، وقد تجاوزَ الثَّلاثين من العمر وهو على هذه الحال، كان ردُّ فعل المطلَّقة بالرَّفض؛ لأن سُمعة المُرشَّح لا تليقُ بسمعتِها كمربِّية.
لم تملَّ خلود أو تعزف عن محاولاتها المقيتة، إذ عادتْ في اليومِ الثَّاني تعزفُ على نفسِ الوتر وتردِّد نفسَ الأسطوانة، وبدأت تبرِّرُ موقفَ سامرٍ قائلةً: إنَّ معظم بنات المدينة ساذجات ولَسْنَ متحضِّرات بالحدِّ الذي يجعلُ سامرًا يقتنعُ بالزَّواج من إحداهنَّ.
نجحت خلود مؤخَّرًا في إقناعِ صديقتِها بما ترمي إليه، وراح سامرٌ يُغدقُ الهدايا وأنواع الحُليِّ على المخدوعة الجديدة، أمَّا علي فكانَ قد تَزوَّج من ابنةِ كبيرِ القضاة التي عوَّضته بِحِلمها وحُبِّها عن سنين الحِرمان والعذاب الذي تجرَّعَه مع فاتن، وقد رُشِّحَ ليكون مستشارًا لوزير العدل.
عاش عليٌّ أيَّامًا سعيدةً غرَّد فيها بلبلُ نفسِه العاشق بأجْمل النشيد، وصفَّق له ربيع الحياة، وعوَّضه الله خيرًا لقاء صبره وحسن نيَّته، ورُزق بطفل جَميل ملأ حياته سعادة وأُنسًا.
أمَّا فاتن التي تعيش أيَّامَها الورديةَ فقد تزوَّجت من فارسِ الأحلام الوسيم، ولكن لم يَكد يمرُّ على زواجِها بِضعةُ أيَّامٍ حتَّى راحت سحائبُ النَّدم تتشكَّل فوقَ المنزل الجديد، لتحجبَ نورَ القمرِ وأشعَّةَ الشَّمس عن شبَّاكِ مَنْ ضَحَّت بِحياتها من أجله، عندما وجدتْ أنَّ أدراجَه مليئةٌ برسائل العِشْق وصورِ المُعجبات، وليتَ الأمْر وقفَ عند هذا الحدِّ إنَّما تجاوزَه ليكشفَ عن هويَّة مُدمِن مخدِّرات من الطِّراز الرَّفيع.
بدأت رحلةُ النَّدم تجوبُ في ذهن فاتن المتعَب، وتُبحر في محيط من السَّراب لا جزرَ فيه، وليس له شواطئ.
كان النَّدم يأكل من قلْب فاتن، والصِّراع النفسي يسرق النضارة من وجهِها، والأمل من عينيها، كانت تموت مع مرور كلِّ دقيقة وثانية.
بعد شهرَين من المرارة والألم النَّفسي طلبت فاتن الطَّلاقَ، وانتقلت إلى مدرسةٍ أخرى لتُسلِّم نفسَها مرتعًا للنَّدم الذي يقتاتُ من قلبها، ويُفتِّت كبدَها.
أرسلتْ فاتن رسالةً معطرةً إلى عليّ، جاء فيها: " سامِحْني يا علي على كلِّ شيء، وخصوصًا على تناوُلي لحبوب منْع الحمْل". ليت الأيَّام تعود ثانيةً. آه يا علي، آه يا علي....!