أعتقد أن أى عادة جيدة نكتسبها كفيلة بتحسين منطق نظرنا إلى الأمور، حتى لو كانت هذه العادة هى القراءة الواضحة،
بالسرعة العادية، فى الإذاعة المدرسية، فى نشرات الأخبار، فى خطابات السياسيين، وفى الصالونات الأدبية.
القراءة بلا إبطاء ولا تفخيم للكلمات. القراءة بلا مؤثرات خارجية غرضها أن تضفى على المكتوب
أهمية ليست موجودة فى جوهره، وما دمنا وصلنا إلى الجوهر، فهذه الجملة السابقة هى جوهر ما أريد التعبير عنه.
قيمة الأشياء ينبغى أن تنبع منها هى نفسها، لا من الطلاء الذى نضعه عليها. السكوت الطويل عند نهايات الكلمات
دلالة على عدم الإحاطة بالأفكار، وهو ما لا يصح مع القراءة. ولو كنتِ فى مقابلة شخصية لعمل فقد تضيّعين فرصتك
لو أبطأتِ كثيرا فى الرد، هذا بطء فى البديهة، يوحى بعدم جدية فى الاستعداد. أما النطق بتفخيم ومبالغة،
والتلحين لتعويض غياب الموسيقى الداخلية النابعة من أصوات الحروف نفسها، فليست أكثر من طلاء رخيص انتفخ قبل أن يسقط.
الغش اللغوى الموجود فى المحسنات المصطنعة، بل وحتى فى المبالغة فى طريقة تعبيرنا
عن مشاعرنا بعضنا نحو البعض الآخر، هو نفسه الغش الحِرفى الموجود فى سباكتنا ونقاشتنا وكهرباء بيوتنا،
هو نفسه الغش الموجود لدى السياسى الكذاب، ورجل الدين التليفزيونى.
ولو ضبطنا المنظومة من أى طرف سينتقل الانضباط إلى الأطراف الأخرى.
ثم إن الإبطاء والتفخيم محاولة للتغطية على مشكلة أكبر. أسمع أدباء يتلعثمون تلعثمًا بيِّنًا فى قراءة ما يكتبون،
فأسأل نفسى كيف هذا. كيف يعمل نجارا من يتعثر فى دق المسمار بالشاكوش؟!
وكيف يُصلِح ساعات من يرتعش المفك فى يده؟! ثم أتذكر أن الكهربائى الذى أحضرته لتركيب بعض اللمبات
فى شقتى لم يكن يعرف من قواعد الكهرباء ما يؤهله لوصل «كُبس الإضاءة» بالسلك الخاص باللمبة، فبهدل الدنيا
لأنه جاى يتدرب عندى، وأتذكر أننى غيّرت المواسير الخارجية فى الحمام مرتين فى سنة، وأننى كلما علّقت بروازا،
أو اشتريت أثاثا له أَرْجُل، اكتشفت أن حوائط البيت وأرضيته ليس فيها «نصف متر مربع» مستوٍ تماما.
الصنعة الجيدة موهبة فى الأساس، لكنها أيضا نتيجة لتدريب النفس تدريبا جديا على المهارات المتعلقة بهذه الموهبة.
الأديبة، أو محررة الأخبار، أو حتى راوية النكتة، يجب أن تجرى بروفة على ما ستفعل، ولا تتكل على «موهبتها» فقط.
وإحدى المقولات التى تعلمتها فى أثناء عملى صحفيا فى «بى.بى.سى» أن «الارتجال أكثر المهارات احتياجا إلى التحضير».
لكن يبدو أننا نفهم الارتجال فى بلدنا السعيد بالمعنى الخطأ. وكأنه ملء فراغ ما بأى شىء. بينما الارتجال الجيد، فى حقيقته،
تعبير عن تشرب بالمهارات لدى الشخص الذى يرتجل تشربا تاما، إلى الدرجة التى تجعلك تظنين أنه يعبر عنها «بلا تحضير».
هذا التشرب التام بالمهارات لا يأتى إلا من العمل الدؤوب، إلا من البروفات، إلا من التكرار والتحسين و«التفنيش» الدقيق.
أى أن «المرتجلة الجيدة» فى الحقيقة إنسانة «جاهزة دوما»، وليست إنسانة لم تكلف نفسها عناء الاستعداد.
وانسيابية الأفكار دليل على التمكن. هل استطعت التعبير عن الفرق؟!
لكن السياسيين لدينا يرتجلون سياسات، بل يتعاملون بنفس منطق الفهلوة الذى يتعامل به الصنايعى والموظف،
وبنفس منطق الاستسهال الذى يتعامل به الأديب والمحرر الصحفى. كله بمنطق «والله يا هانم أنا جايب لك نوعية ماحصلتش،
علشان خاطر سعادتك بس والله»، مع أنك ترين هذا الصنايعى لأول مرة فى حياتك، وغالبا لآخر مرة أيضا.
ومع أنك لم تطلبى منه «معاملة خاصة»، كل ما طلبتيه أن يراعى ضميره، وأن يؤدى عمله.
ومع أنك تعرفين، وهو يعرف أنك تعرفين، أن المبالغة والتضخيم والتفخيم دلالات على انعدام الصدق.
النجار الذى ينفق وقته فى التأكد من التفنيش المحكم، والحداد الذى لا يبخل على مهنته بوقت يختبر فيه المتانة وانسيابية الشكل،
والطباخ الذى يستطعم طعامه، أبناء نفس المجتمع الذى يفرز سياسيا يهتم بكتابة دستور جيد وصياغة خطة اقتصادية حقيقية
وليست للاستهلاك الانتخابى، وأبناء نفس المجتمع الذى يكون فيه الجمهور أيضا نبيهًا، قادرا على الفرز بين الغث والثمين،
وبين الكتابة المنطوية على فكر وجمال داخليين، وبين الكتابة التى تحتاج إلى طلاء يدارى عيوبها، أو لحن يصرفنا عن التفكر فيها،
أو اقتباسات من أسماء «كبرى» تضمن للمكتوب التبجيل. كلهم أبناء مجتمع يحب ما يفعل، فيتقنه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]