تعرفتُ بهذا الصديق الكفيف قبل أن أقرأ رواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين»، وقبل أن تتحول إلى فيلم،
وتصبح شخصية الشيخ حسنى لها هذه الشعبية والمرجعية، ويضاف هذا المس الجديد بالحياة إلى صورتنا عن الكفيف.
كنت بحاجة، فى سنوات الجامعة، لأن ألتزم بتقديم المساعدة لأحد، لأقلل من إحساس اليأس الذى كنت أشعر به وقتها،
وكان يدفعنى دائمًا لمواجهات نفسية حادة. المهم دلتنى إحدى صديقات الكلية على مركز المكفوفين.
كانت هذه الزميلة الجميلة مهتَمة بمساعدة المكفوفين، والمجذومين، والصم، والبكم، وكل أصحاب العاهات
التى يجب أن نصادفها يومًا ما فى الطريق العام، فما المانع فى أن نُعجِّل بهذه المصادفة. الجميل فى الموضوع
أنها كانت تقوم بهذه المساعدات بروح مبتسمة، وهى الروح المناسبة لتلك الأعمال الشاقة.
كانت سعادتى لا توصف بهذه الخطوة التى خطوتُها فى هذا الاتجاه، بأن أنضم إلى هذا الجيش من أصحاب العصيان البيضاء،
أتقدمهم بنصف خطوة لأفتح لهم الطريق. كان عندى الميل للانتظام فى جماعة كبيرة، أو صغيرة،
أسير داخلها أو أمامها. ما أدين به لتلك الأحاسيس التى تولدت من مساعدتى للآخرين،
أنها حفظتنى من الضياع، من كراهية نفسى، بمعنى آخر، منعتنى من الوصول إلى طبقة أعمق بداخلى
لم يكن أوانها قد أتى. الإحساس بالتعاطف مع النفس، لأنها تساعد الآخرين، يكشف لهذا الوجود الصغير
حدوده الإنشادية. فما المانع من أن يكون لدىّ نشيدى المبكر، طالما أضحى فى سبيله.
لم يكن لصديقى هذا الوجود الرمزى كالشيخ حسنى، لكنه كان يملك وجودًا حقيقيًّا يحوِّل هذا الواقع الثقيل والمعادى إلى خيال.
وربما كان يراه «كقطعة من خيال صافٍ». كان أكثر جرأة منه، لكن دون حشيش، ودون ذلك الإحساس الدائم بالخسارة.
كان له كرش يتوسط قامته القصيرة، ورأس لم يتبق فيها شعر، على الرغم من أنه وقتها لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين.
كل هذا كان يجهزه لأن يكون مقرئا مغمورًا فى المآتم، يشرب أكوابًا متتالية من الينسون والماء بالسكر.
لكنه خيّب أمل هذه الصورة التى كانت تنتظره. كان متساميًّا بخياله فوق الحياة، يتعامل معها بنفس السخرية
التى تعاملت بها معه، كأن العاهة لم تعلمه أن يكون حكيمًا. هنا وجه الشبه بالشيخ حسنى.
الاثنان لم يتعلما من عاهتيهما، الاثنان كانا ضد عاهتيهما على طول الخط.
كان يؤمن بأنه روائى كبير سيئ الحظ. عندما دخلت عليه غرفته بمركز المكفوفين لأول مرة وجدت معه فتاة تلبس نظارة سميكة
يسر لها بكلمات فى أذنها، كى لا يسمع الآخرون، بينما هى تقوم بالكتابة كأنها تتلقى وحيًّا على الهواء.
عرفتُ بعدها أنه بجانبى تجرى وقائع تأليف رواية. كتب اثنتى عشرة رواية منذ تخرجه فى كلية الآداب،
بمعدل رواية لكل صيف. ولكى يشق طريقًا إلى موهبته ذهب إلى إحدى الصحفيات المشهورات بجريدة «الأخبار»
وعرض عليها رواياته. وحتى لا يسرقها أحد، ولا حتى الصحفية نفسها، صحب معه صديقته لتقرأ وقائع الرواية التى تشغل عدة كشاكيل!
كانت أصغر رواية من روايته تتجاوز الألف صفحة من قَطع الكشاكيل القديمة.
عندما توطدت علاقتى به صحبنى إلى بيته. أسرة من خمسة أفراد يعيشون فى غرفتين صغيرتين
فى مجمع سكنى قديم على البحر. كان نصيبه من البيت سريرًا ونصف دولاب إيديال، وسقف الدولاب
الذى يُخزِّن به كتبه الجامعية ورواياته. بين الدولاب والسرير يحشر حقيبته وعصاه البيضاء. كانت هناك إشارة متفق عليها بيننا،
عندما تدخل فتاة جديدة، من اللاتى يؤدين الخدمة العامة، غرفته فى مركز المكفوفين. عندها تشرئب رأسه سريعًا،
بعكس رأس الشيخ حسنى التى كانت تشرئب لتستقبل ذبذبات الموت أو الخطر أو المؤامرة.
عندها يسألنى عن نسبة جمالها، فأعطيه دائمًا نسبة مغلوطة. الصوت بالنسبة إليه هو مقياس الجمال.
كان يقيس الجمال بالمكبوت النفسى للشيخ المعمم. وعندما أخيب أمله وأقول له «ثلاثين فى المئة»،
وهى النسبة التى لم أتجاوزها أبدًا حتى مع حبيبته التى أفنت عينيها فى القراءة له وكتابة رواياته، يصرخ فى وجهى بأننى أكذب،
أو يبتسم فيظهر هذا الصف من الفراغ، مكان الضروس التى سقطت. كان يجمع حوله جيشًا من الفتيات المسخرات للقراءة،
ولتوصيله إلى محطة الأوتوبيس، وكتابة الروايات. كان يستخدم عاهته ليؤدب بها، من بعيد، من تسول له نفسه
أن يتباطأ عن خدمته. ولا مانع من بعض المداعبات الجنسية البريئة، المقصودة وغير المقصودة.
ورغم رومانسيته البادية فى رواياته الضخمة، فإنه لم يقع فى أوهام الحب كمعظم زملائه الرومانسيين
الذين كانوا ينتظرون فتاة جميلة وثرية تنتشلهم من هذا الظلام.
ولكن رغم عدم رومانسيته لم يكن أيضًا شيخ يوسف إدريس فى «بيت من لحم».
كان يتعامل مع العاهة بروح مرحة وساخرة، ويروِّضها لصالح مشروعاته وحركته اليومية.
كان يرفع من نفسه فوق العاهة. طبيعته المرحة والصلبة جعلتنى أشترك فى تدبير بعض المقالب
مع باقى زملائه المكفوفين. طبعا القاسم المشترك فى هذه المقالب هو النساء،
أو الإمساك بنقطة ضعفه «كروائى كبير مغمور». لم أعد أتحسر عليه أو أتعاطف مع عاهته،
وربما هذه هى أولى خطوات الشفاء بالنسبة لى. على الرغم من فداحة العاهة فإنها يجب أن تُنحّى جانبًا فى وقت ما،
حتى أقف على أرض مستوية وأنظر إليه فى عينه، وعندها يرانى هو من الناحية الأخرى.
تركت المركز بعد عدة سنوات، فى اللحظة التى أحسست فيها أنهم هم الذين ساعدونى على إعادة ميزان الحياة
لوضع متكافئ وعادل. وتركت ورائى أيضا كنزًا أعمى من الضحكات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]