كان يقود سيارته فى زحام القاهرة، وحزن كثيف غامر يزحف على روحه بالتدريج. لأول مرة يلاحظ أن الحياة استغرقته، ولم يعد يصنع شيئاً إلا ليجلب نفعاً من ورائه، حتى البسمات صارت بحساب. يرسمها على وجهه حين يشاهد رئيسه فى العمل، أو مسؤولاً مهماً، أو رجلاً يريد منه شيئاً. معارف كثيرون ولكن بلا صديق واحد. لم تعد فى حديقته زهرة واحدة حقيقية. جميعها زهور صناعية مفتعلة فاقدة للحياة. السيارات تزحف من حوله، لكنه لا يراها. عيناه مفتوحتان لكن إلى الداخل، وأذناه تصغيان للحنه الداخلى، ولا تسمعان ضجيج الطريق. وبرغم سترته الأنيقة ورباط العنق على أحدث موضة، والعطر الفاغم الذى يفوح منه، إلا أنه يشعر بالاتساخ. يذكر مرة، ظل فى سفر متصل لعدة أيام. كان وقتها شاباً فى مقتبل العمر يكافح من أجل البقاء. ويذكر أن العرق وطول المسافة والملابس الواحدة جعلته يشعر فى نهاية الأمر بالاختناق. وحين وصل إلى بيته أخيراً، فإن أول ما فعله أن انطلق إلى الحمام وخلع ثيابه فى اشمئزاز. أطال الوقوف تحت الماء شاعراً بأنه يتطهر. أليس من العجيب أن يعاوده الإحساس بالاتساخ؟ انفرج الطريق طويلاً وانكشفت ثغرة احتلها تلقائياً، فى الوقت الذى ناورت فيه سيارة أخرى من أجل الوصول إليها. وتمتم سائق السيارة المجاورة سباباً لم يسمعه، فنظر نحوه فى تعجب. الطريق مكدس والجميع سيصلون فى نهاية الأمر فعلام الصراع؟ لكن لحنه الداخلى الحزين أخبره بأنه فعل نفس الشىء فى رحلة الحياة. تقدم بسرعة ليحتل مكاناً خالياً قبل أن يسبقه الآخرون. فعل ذلك برغم أن طريق الحياة مكدس هو الآخر، والموت محتوم فى نهاية المطاف. وفجأة، وبينما هو فى مونولوجه الداخلى، شاهد وجه صبى يجلس فى المقعد الخلفى لميكروباص. الصبى كان مستديراً نحوه، بعد أن مل رتابة الطريق. التقت نظراتهما على غير قصد، الصبى أسمر اللون، ناعم الملامح، خالىً البال من كل هموم الحياة. شرع يتأمله بعناية وفضول. الصبى يبدو مستغرقاً فى التفكير. فلعله يفكر فى مباراة كرة، أو فى أصدقائه، أو وجبة العشاء. بالتأكيد هو يحب من قلبه، يضحك إذا كان سعيداً، وإذا ضايقه شىء لا يتردد فى البكاء. زهوره كلها حقيقية. أما هو فلا يضحك إلا لو كان وراء الضحك مصلحة، ولا يتودد إلا إذا كان يرجو نفعاً من هذا الوداد. الذى حدث بعدها أنهما تبادلا النظر أكثر من المعتاد. الذى حدث أيضاً أن النظرات امتدت حتى اتصلت، واتصلت حتى تعانقت، ورغم التفاوت فى العمر صار بينهما نهر من النظرات. وفجأة وجد الصبى يضحك له ضحكة حلوة، ضحكة مفعمة بالمودة الإنسانية دون أن يكون وراءها أى أهداف. فوجد نفسه هو الآخر يضحك للصبى من كل قلبه، شاعراً بأنه يستحم دون أن يخلع الثياب.