لماذا نكبر؟[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] داخلته هيبة وهو يمر عبر الرواق الطويل ذى الطابع الحكومى الرصين. اقترب فى تأدب من مدير المكتب،
وأخبره بأنه والد إحدى الطالبات، ويريد أن يقابل وكيلة الكلية ليتظلم من نتيجة ابنته. طلب منه الانتظار،
فجلس على حافة المقعد، ناظراً إلى السجادة بإصرار، شاردا فى خواطره.
من يراه الآن يستغرب غضبه بالأمس، حين أخبرته ابنته - والدموع تسيل منها - بأن أستاذ المادة تعمّد رسوبها،
لأنها ناقشته فى موضوع المحاضرة، فتوهم أنها تقصد إهانته. استيقظ فى الصباح عازما على الشكوى لعميد الكلية.
لكنه بمجرد أن جاوز البوابة خامرته الشجون. الصغيرة العزيزة نسيت أن أباها كان طالبا فى نفس الكلية
ولكن منذ ملايين السنين الضوئية. واكتسحه سيل من الشجون والذكريات المفاجئة. تفاصيل دقيقة لم يكن يتصور أنه يتذكرها.
وكأنه عاد شابا فى العشرين يمتلئ بالحماسة والأمل والرغبة فى تغيير العالم. كان شعره أسود كحلكة الليل،
وقلبه أبيض كضوء النهار. ومهما دققت النظر فى ملامحه فلم تكن لتجد تجعيدة واحدة.
شرع يرنو إلى المبانى العريقة وقد طفرت من عينه دمعة حاول كتمانها. هنا كان يقف ويسير ويجلس.
هنا كان يجادل ويحب ويحلم. هنا كان يظن أنه قد ملك الدنيا بأسرها.
وبينما هو غارق فى أفكاره الخاصة سمع اسم وكيلة الكلية يتردد. الأستاذة الدكتورة كاميليا حسن. ردد الاسم فى شرود كى يتذكره،
ثم فجأة انتفض! كاميليا حسن! ألم تكن هى بالذات زميلته فى نفس الدفعة؟!
شرع يهز ركبتيه فى توتر ملحوظ. أحيانا تمطرنا السماء مطرة غير متوقعة! يذكرها فتاة رقيقة كثيفة الأهداب،
عسلية العينين، تتعثر فى حيائها وارتباكها. وبرغمه أفلتت منه تنهيدة. ترى كيف تبدو الآن، وهل تتذكره؟ كان شعرها الليلى تسكنه الفراشات والعصافير الملونة!
وفجأة سمع مدير المكتب يدعوه، أصلح هندامه بلمسات يائسة. ليته كان يعلم مسبقا بلقائها،
على الأقل كان يهتم بمظهره. دلف إلى الغرفة بساقين مرتعدتين، وصوب نظره صوب المكتب.
يقينا أن عينيه تخدعانه، وأنها ليست هى. ما يراه الآن سيدة فى خريف العمر
، ذات عينين منتفختين عدائيتين، ووجه صارم لا يبشر بخير، وملامح بليدة متشككة.
شرع ينظر إليها فى ذهول عاجزا عن الفهم. أين ذهبت الفتاة الرقيقة المتعثرة فى أحلامها وحيائها؟
نهرت أحد الموظفين أمامه بلهجة قاسية. ثم انتبهت لوجوده، فصوبت نحوه نظرة متسائلة، وقد بدا جليا أنها لم تتذكره.
حاول أن يستجمع نفسه وحكى بسرعة مظلمة ابنته. طلبت منه فى برود أن يكتب طلباً بإعادة التصحيح،
ثم أدارت وجهها عنه إيذاناً بأن الحديث قد انتهى.
وبينما هو يجر قدميه بصعوبة، لم يفته أن يصوب نظره صوب مرآة جانبية. على الجانب الآخر
شاهد كهلاً متدلى اليدين، ينظر إلى انعكاس صورته فى المرآة باستسلام يائس.