حكاية بحر
ماجدة إبراهيم
وصلت متأخراً وجدت جسده ممددا تنزف دماؤه من كل ركن.. شفتاه مازالت رطبة باسمه
(بحر) قالها وغادرت روحه الطاهرة إلى ـملكوت السموات والأرض
قليلا ما أذهب بنفسى إلى المستشفى لكن الأمل كان يغازل قلبى أن أجده مازال حياً
ولأننى أعشق الخيول فقد لفت نظرى تفاصيل ماجرى
لم يكن عبدالرحمن الابن الوحيد للست صفية، لكنه زهرة شبابها وصباها
فهو الولد البكر الذى حلمت أن تزفه لعروسه.. لكنها زفته إلى القبر!
ارتمت صفية تلملم رائحة ابنها فى أحضانها تمسح دماءه بيديها تقبله قبلة الوداع
شقت عباءتها بعد أن طارت آخر خيوط عقلها بوفاة عبدالرحمن
حاولت أن أمسك انفعالاتها بكلمات تخفف وطأة صدمتها لكنها وجهت نظراتها المعذبة لى
وهى لاتعرف حقيقة عملى، لكنها استشفت من لهفتى على تهدئتها أننى إنسان محترم
عبدالرحمن كان نور عينى التى أرى بهما أما الآن فأنا عمياء لا أرى
وانصرفت من المستشفى وظلها فى خيالى لن أنساه ما حييت
وكلما استجوبت شهود العيان لواقعة قتل عبدالرحمن أجد الدموع لا تلبث أن تتسرب إلى مقلتى
البعض قال كم كان عبدالرحمن شابا طيب القلب رقيق المعشر حلو الحديث
و(بحر) هو حبه الوحيد حرمه الله من أبيه وهو لم يكمل عامه العاشر وبحر كان ورثه الوحيد من والده
بحر حصان عربى أصيل له صولاته وجولاته فى السباقات.
تربى بحر وعبدالرحمن سوياً لا يفترقان حتى كتب القدر أن يفرقهما الموت
بحر فى الفترة الأخيرة أصابه الأعياء والمرض ولم يحفل به سوى عبدالرحمن كعادته..
تسربت الكآبة والحزن إلى قلب بحر وخشى أن يفرط عبدالرحمن فيه
وكأن الحصان العجوز يعرف ما تدبر إليه الست صفية بعد تدهور صحته
فقرر أن يعاتب عبدالرحمن بطريقته بعد أن أنهى صديقه مهمة تنظيفه
لم يعرف عبدالرحمن أن هذه هى المرة الأخيرة التى يرى فيها بحر وهذا الحمام هو آخر حمام فى حياته
وتحول بحر من حصان عجوز لا حول له ولا قوة إلى مجرم متهم بقتل صاحبه
وفى كلا الحالتين سيكون مصيره الموت
هذه كانت أول مرة أسأل متهما بالقتل ولا يجيب.. أشفق عليه من كلماتى أعذبه بنظراتى عليه وعلى عبدالرحمن
وجدته يفترش الأرض فى زهد بالغ ويغمض عينيه كأنه فى انتظار نهايته لا يطلب السكر كعادته كل صباح
فمن كان يعطيه مات بحوافره التى نهشته
شددته من ذيله فلم يتحرك
ناديت عليه ففتح عينيه نصف فتحة فوجدت حسرة وندم شق السواد بياض عينه وطغى
تتنفس أنفاسه هواء بطيئاً بلا رغبة فى حياة
تحدثت مع محروس حارسه الجديد فعرفت أن بحر قرر أن يضرب عن الطعام حزنا وكمداً
عما اقترفه فهو لا يأكل منذ يومين ولا حتى يشرب إلا بضع قطرات
محروس يقول وهو عليم بأسرار الخيول فى كثير من الحالات التى عاصرتها
عندما يموت صاحب الخيل يلحق به الخيل وفاء لصاحبه
فما بال من تسبب فى قتل صاحبه
فسألته: إذن هو يحتضر
فأجاب محروس: لم يعد له سوى أيام قليلة وينتهى كل شىء
تحسست جسد بحر من رأسه حتى قدميه فإذا به ينتفض انتفاضات متتالية
ويهدأ جسده إلى الأبد.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]