أربع دقائق وثلاثٌ وثلاثون ثانية ضجت القاعة بالتصفيق فور دخول قائد الأوركسترا إلى المسرح، كان رجلاً أشيب الشعر يرتدى بدلة سوداء أنيقة،
بدا واثقاً من نفسه، مشى بخطوات هادئة إلى أن وصل لمنتصف المسرح.. أومأ القائد برأسه تحية للجمهور،
ثم أشار بيده إلى العازفين سامحاً لهم بالجلوس استعداداً للمقطوعة الموسيقية الأولى فى الحفل.
جلس العازفون، ثم قاموا بتجهيز أوراق النوتة الموسيقية الخاصة بالمقطوعة
ووضعوها أمامهم على حاملات الأوراق، كانت المقطوعة مكونة من ثلاث حركات موسيقية..
حل السكون تدريجياً فى أرجاء القاعة، وتحفز الجمهور للاستماع.. تأهب العازفون انتظاراً لإشارة البدء
من قائد الأوركسترا.. رفع القائد يده الممسكة بعصا القيادة للحظات، فحبس الجميع أنفاسه.
.ثم أنزل العصا بحزم معلناً بداية المقطوعة.. تلك المقطوعة التى لم تكن سوى.. لا شىء!
نعم لا شىء! لا صوت! ولا حتى نغمة موسيقية واحدة! لم تتحرك أصابع أى عازف!
أغمض العازفون أعينهم بمنتهى الجدية والتأمل، وأياديهم فوق آلاتهم.. إلا أن أصابعهم لم تتحرك!
ببساطة.. لقد كانت النوتة الموسيقية عبارة عن ورقة بيضاء فارغة! لم يكتب المؤلف نغمة واحدة فيها!
وظل العازفون والجمهور على هذا الحال.. غارقين فى الصمت والتأمل، لا يُسمع غير أنفاسهم،
وتسبح فى عقولهم مئات الأفكار والمشاعر، ظلوا كذلك فترة من الوقت.. وفى لحظة معينة رفع القائد عصاه معلناً
نهاية الحركة الأولى وبداية الحركة الثانية. وبعد برهة من الصمت العجيب، رفع عصاه مرة أخرى
لتبدأ الحركة الثالثة والأخيرة التى استمرت حوالى دقيقتين.. إلى أن رفع القائد كلتا يديه أخيراً
معلناً نهاية المقطوعة «الصامتة» بحركاتها الثلاث، فضجت القاعة بالتصفيق الحاد!!
لم يكن ذلك المشهد من نسج الخيال أو قصة مختلقة، إنما كان واقعاً حقيقياً، فالمقطوعة الصامتة
هى للمؤلف الموسيقى العبقرى چون كايچ، وقد ألفها عام ١٩٥٢ تحت اسم «أربع دقائق وثلاثٌ وثلاثون ثانية»
وهو نفس المدة الزمنية التى تستغرقها المقطوعة، أثارت المقطوعة جدلاً واسعاً فى الأوساط الثقافية والفلسفية
والفنية حول العالم، حينما سئل چون عن سبب تأليفه لهذا العمل، فأجاب قائلاً: «لقد فكرت فى حذف الموسيقى
من العمل وإسكات العازف تماماً، حتى يتمكن الجمهور من سماع نفسه
ومشاعره وأفكاره دون وسيط خارجى، ولأتمكن من سماعهم أنا أيضاً!»
ربما نحن أيضاً نحتاج إلى سماع أنفسنا دون وسيط خارجى، ربما نحتاج لبعض الصمت، لعلنا نستطيع سماع حقيقتنا.
ليت الصارخون بضجيج «الأنا» ونشاز المصالح وضوضاء الغل والحقد يتوقفون جميعاً وفى وقت واحد
عن الصراخ.ليتهم يتوقفون ولو لأربع دقائق وثلاث وثلاثين ثانية فقط، نهدأ فيها وتهدأ الدنيا.. نغمض أعيننا..
ثم نرهف السمع إلى أعماق نفوسنا.. حينها، سنفاجأ بذلك الصوت الواهن الآتى من بعيد.. نعم..
إنه نفس الأنين الذى ألفناه منذ زمن وتعمدنا تجاهله وتركناه يضيع وسط صياحنا البشع.
. فقط حين نصمت.. سنسمع أنيناً واهناً.. لعجوز تحتضر.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]