بالنسبة إلىّ، فإن هذا الفعل يلخص جوهر الكود الأخلاقى القروى المصرى.
سيقفز شخص الآن ويصرخ: هل ترون؟! إنهم يريدون أن تشيع الفاحشة! هذا الشخص لن يفهم ما أتحدث عنه.
القطنة -أو المنديل- الخارجة إلى الجماهير قد تكون حقيقية الدم أو مزيفة.
والطبيعى أن لا يعرف هذا سوى العروس. وفى أقصى التقدير زوجها.
لو كان الموضوع هو البكارة والثقة بين الزوجين لكفى بهما شهيدين، يتفقان أو يختلفان.
لكن الحقيقة أن لبّ الموضوع هنا هو شهادة الآخرين على «الشرف» حتى لو دم فرخة،
وبالتالى رضا العائلة، مبعث الأمان، ومصدر انتقال الثروة، لا رضا الشخص الوحيد الذى يخصه الموضوع
بخلاف العروس. وكذلك ترويض الإنسان الفرد على قبول دور الآخرين الرقابى
الذى يطول -ككاميرا طبية- أقصى القصىّ. ما دلالات ذلك على «أخلاقنا» وعلى طريقة بنائنا للدولة؟
هذا الفرد الملتصق بالعائلة لو انتقل خارج القرية سيشرك عائلته فى كل شىء أيضا. بطرق أخرى.
بعضهم ينتقل بالسُّكنَى بعائلته كما هى، ويستبدل بالبيت الكبير عمارة، ولا يسمح لغريب بالسُّكنى فيها.
وحين تنشب عَرْكة فى الشارع سيتصل بأهله ويحسمون الموضوع جسديا، كما اعتادوا تماما.
إن لم يجد فى عائلته ما يكفى من «عزوة» سيلتحق بجماعة، ويتعاملون كعائلة، «أهل وعشيرة»،
فى مقابل عائلات الآخرين. وحين يصل هذا الفرد إلى منصب سيلحق من استطاع من أهله به.
سيحولون ذلك إلى عرف عام، يبررونه بـ«الأقربون أولى بالمعروف». ثم سيجعلونه شبه قانون،
الطبيب الكبير سيقول لك فى الكلية «الطب يورَّث ولا يدرَّس»، دون أن يدرى أنه يحطمك،
ويحطم الدولة والمستقبل بتحطيمك. والمستشار سيعلن أنه يحارب الفساد بينما أبناؤه الخمسة قضاة.
والواسطة تمتد بعد الأهل إلى المعارف، وستجدين شخصا يقول لك: «والله الراجل ده كويس،
شغَّل نص البلد» ثم فى جلسة أخرى سيلعن الواسطة والمحسوبية.
دون أن يدرك القروى (وهنا أعنى كلنا) أن الراجل الكويس اللى شغّل نص البلد،
هو نفسه اللى عمل الواسطة والمحسوبية.
هذا معناه أن «صلة الرحم» فى الحيز العام -لاحظى!- هى نفسها «الفساد والمحسوبية».
أى والله. شفتى إزاى؟! تأخذين وظيفة يستحقها فلان لكى تعطيها لقريبك. فى أخلاق الـ«سيتى»
هذا جرم مشهود. وحين يتحول هذا إلى جرم مشهود فى القاهرة والإسكندرية وفى المدرسة الابتدائية فى القرية،
نكون قد تطورنا من قرية كبيرة إلى دولة، وتكون مصر -بالتالى- وطنا، ونكون أنت وأنا مواطنين.
أردت أن أضرب مثلين بالغَى الشيوع فى مجتمعنا، لكى أشير إلى فكرتى. لو نجحتُ فى توصيلها
ستكون الأمثلة القادمة سهلة. أولا ستفهمين أن ابن الغتيتة الذى انتفض معترضًا فى بداية المقال
وقال «إنهم يريدون إشاعة الفاحشة»، لم يكن فى الحقيقة يدافع عن الأخلاق، إنما كان يدافع عن دوره العائلى
فى الرقابة. وستفهمين لماذا يغضب مصرى من شابة تسير مع شاب، ويتدخل رغمًا عنها، وسيسمى هذا «غَيرة»،
بينما لا يغضب بنفس القدر من تعرض فتاة للتحرش. بل إن نفس الشخص قد يمارسه. إن لم يكن فعلا فقوْلًا.
وستعرفين لماذا فوجئنا بأن أشد الناس «حرصا» على الرقابة الأخلاقية فى الدستور،
وعلى تطبيقها بأنفسهم على المجتمع، هم أبعدهم عن الأخلاق، كما رأينا جميعا حين انكشفوا على العامة.
وستعرفين لماذا تنتفخ العروق اعتراضا على الرقابة الأجنبية على الانتخابات، بينما تتهاون مع جريمة التزوير.
أى: لماذا لا تتجلى «الوطنية» عندنا إلا فى كراهية الآخر
، بدلا من السعى إلى نشر الود والسعادة والعدل بين كل المصريين؟
لو نجحتُ فى توصيل فكرتى لن أكون قلقا من إساءة فهمى إن جئت الآن إلى الخلاصة:
فكرة الـ«سيتى»/ الدولة/ الوطن تقوم بالأساس، على الفصل التام بين العلاقة العائلية
وتجلياتها فى الحيز الخاص، وبين العلاقة العائلية فى الحيز العام. يسمون هذا «تحطيم الروابط العائلية».
لكنهم لا يقصدون بها تحطيم العائلة بالمعنى الشائع للكلمة، بل بالمعنى السياسى لها.
بكرة أحكى لك ماذا فعلت عائلة النبى إبراهيم فى مصر. لا. ده نفس الموضوع هو ذاته،
أنا بس عرفت إنك بتحبى تتفرجى على الموضوع معايا من أكتر من زاوية!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]