غادة عطا تكتب: نحو النور
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] كان البرد قارصا والظلام حالكا، والفراشات تتطاير هنا وهناك
على غير هدى تبحث عن الدفء والضياء، وإذ بنار قريبة تبعث نوراً
ودفئا، فانطلقت الفراشات أسراباً نحو النار، كلما اقترب سرب من النار
جذبته إليها بدفئها ونورها، فأحرقت أجنحته ليهوى فى النار صريعاً،
فراشة تلو الأخرى تلقى حتفها، جاء الدور على فراشة ضئيلة صغيرة
لكنها شعرت بلسع النار فى مقدمة جناحها، عندما اقتربت منها،
فارتدت للوراء قليلاً خائفة مذعورة مما قد ألم ببعض جناحها،
وقفت الفراشة الضئيلة بكل براءة ترقب الموقف،
فإذا بها ترى العجب العجاب.
إن كل فراشة تجذبها النار بجمال نورها ودفئها وضيائها
الذى يملأ الأرجاء ويأخذ الأبصار، فتندفع نحوها بكل شوق
وتطلع للأمان فإذا بها فى ثوان تتحول لكتلة من رماد أسود بعدما كانت
تتباهى بزهاء ألوان أجنحتها وجمال صورتها وبهائها
وأصاب الفراشة الضئيلة الذهول.. إن موت أى فراشة ممن ماتوا
لم تمنع غيرها أن تقذف بنفسها هى الأخرى فى النار بحثاً عن
الدفء والضياء وكأنها قد عميت أن تدرك مصيرها
وقفت الفراشة الضئيلة حائرة ماذا تفعل؟
إن كل الفراشات الأجمل منها والأبهى صورة يلقون بأنفسهم فى النار
بغير تردد، فهل تكون هى الوحيدة التى لا تلقى بنفسها فى النار،
إنها ليست بالأجمل ولا الأعقل، فلماذا لا تفعل مثلهم؟
وكلما زاد عدد الفراشات الذين يقتحمون
النار كلما زادت حيرتها متسائلة هل هناك مصير آخر غير هذا نحن لا نعرفه؟
رفعت الفراشة بصرها فى الأفق، لعلها تجد حلاً أو ملجأ تلوذ به
من ظلمة ووحشة المكان، وذلك البرد القارص
الذى كاد يجمد أوصال فإذا بها تلمح من بعيد ضوءاً خافتاً
يسرى بطيئاً لفجر قد لاح.
أسرعت تجرى وتلف وتدور فى سعادة وبشر وتصيح بالفراشات المتبقية
أن تأتى معها نحو هذا البصيص من الضوء لعله الضياء والدفء
الذى ليس بعده موت، بينما الفراشات تضحك منها وتعلو ضحكاتهم
كما لو كانت تهذى أو أصابتها لوثة، هى تصيح بهم هلموا إلى الضياء،
هلموا إلى النور، وهم يصيحون بها هلمى إلى الدفء والنور القريب أمامك،
صارت الفراشة حائرة تنظر هنا مرة وهناك
مرة أتمضى معهم نحو حتفها أم تمضى وحدها بلا رفيق؟
كلما قرصتها برودة الجو نظرت لنارهم، وكلما اشتاقت للحياة
نظرت لبصيص نور الفجر، كلما تاقت للصحبة والخلان
نظرت لنورهم، وكلما تاقت للأمان والسعادة نظرت لنور الفجر.
وفى النهاية وبعد حيرة مريرة كادت تودى بعقلها، استعدت وحلقت
لكن ليس إلى النار.. ولكن إلى النور فى الأفق البعيد، واثقة أن فيه
بغيتها وما تريد، وكلما حلقت انحسر عنها حجاب من الظلام
وأشرق عليها النور، حتى تنفس الصباح وأشرقت شمسه
وأضاءت ظلمة المكان، وطردت وحشته وبعثت الدفء فى الأرجاء
ليتخلل أخيراً الدفء لأوصالها التى كادت تتجمد من البرد ويملؤ النور عيونها
التى كاد يتلفها الظلام، توقفت الفراشة فجأة وتذكرت عشيرتها وأقرانها
وقررت أن تعود إليهم لتخبرهم بما رأت، ولتثبت لهم بالدليل والبرهان
حتى تمنع باقى الفراشات أن تلقى بنفسها فى النيران، أتراها
عندما تعود تجد أحداً منهم على قيد الحياة أتراها تجد منهم من لم تفترسه النيران؟
ترى لو كان هناك منهم من بقى على قيد الحياة،
أتراه يصدقها ويمضى معها فى طريق النور؟
أتراها تجد رفاقاً فى طريق النور؟ أم أنها عندما تعود تجد النار
قد خمدت وخمدت معها كل أجساد عشيرتها وأقرانها.