الإخوان المسلمون بقلم: أنور السادات (3) [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] - حين يجتمع الإخوان لا تسرى بينهم إلا أسطورة واحدة هى السمع والطاعة اجتمعنا عند الفريق عزيز المصرى.. اجتمعنا فى كل هذه الأماكن وفى أماكن كثيرة غيرها
وفى ظروف كان البوليس السياسى يتعقبه فيه رحمه الله ويتعقبنى أنا الآخر،
وفى ظروف كانت مصائر الناس وأقدارهم يلعب بها ملك طاغية مستهتر وحكومات منحلة.
ومع ذلك ومع كل هذه الظروف اجتمعنا.. ودبرنا.. ونفذنا.. أقولها ثانية.. اجتمعنا.. ودبرنا.. ونفذنا رغم أنف كل هؤلاء.
فأين كان الإمام الهضيبى فى تلك الأيام.. لا أحسه جالسًا نائمًا فى كرسى القضاء فى الصباح وعلى الفراش
الوثير فى المساء وقت أن كان مصير هذه البلاد يتقرر ونحن نجرى ونتخفى
ونقهر ونعيش تحت تهديد دائم ليس من أجل أشخاصنا.. إنما من أجل البلاد.
أين كان الإمام الجديد يوم أن تكونت أول جبهة متحدة من الضباط الأحرار والإخوان والبوليس سنة 1941
بقيادة الفريق عزيز المصرى، وكنت أمثل فيها إخوانى الضباط الأحرار والإخوان المسلمين
فى وقت واحد، وفى تفاهم تام مع زملائى ومع الإمام الشهيد رحمه الله؟
لا أحسب أن أحدًا من الإخوان القدامى يعلم هذا السر حتى اليوم.. بل أنا أقطع بذلك وأنا أقطع أيضًا أن أحدًا من الإخوان القدامى
لا يعلم الدور الذى كانت ستلعبه جماعة الإخوان المسلمين بالاشتراك مع الضباط الأحرار سنة 1942
والذى وصل إلى أدق التفاصيل بينى وبين المرحوم الإمام الشهيد، ولما لم تنجح الخطة
وقتذاك بقيت سرًا مكتومًا حتى اليوم من ناحية الإمام الشهيد ومن ناحيتى أنا أيضاً.
أين كان الإمام الجديد فى كل هذا؟ وبعد هذا سنوات طوال أيضا.. بل أين هو اليوم؟
قلت كل هذا للدكتور خميس حميدة نائب المرشد العام، وقلت له أيضا: إننى على استعداد
لأن أتوجه إلى المركز العام للإخوان المسلمين، وأن أقف بينهم خطيبًا لأقول كل هذا وأكثر من هذا.
والعجيب -وأنا أعرف الكثيرين من الإخوان المسلمين وأتحدث إليهم- أنهم يجمعون فى ما بينى وبينهم
على الشطط والخلل، الذى تتسم به تصرفات الإمام الجديد..
ولكنك لن ترى إلا أسطورة واحدة تسرى بينهم حينما يجتمعون هى أسطورة السمع والطاعة.
فهل يكون جمهور الإخوان كجمهور آخر انتشلته الثورة من براثن الإفك والضلال، ذلك الجمهور
الذى هتف فى يوم من الأيام لرجل من رجال السياسة انكشف أمره.. نادى هذا الجمهور: «حرامى حرامى.. لكن عاوزينه»؟!
جريدة الجمهورية 9 سبتمبر 19542-اللقاء الأول مع حسن البناوصلنا من مرسى مطروح إلى القاهرة بأسلحتنا كاملة، وجمعتنى القاهرة بأصدقاء منقباد..
وكانوا جميعا يفكرون فى ما كنت أنا أفكر فيه.. كانت تسيطر علينا «فكرة الحياة».
وقررنا أن نتصل بعلى ماهر لنعرف منه جميع التفاصيل التى كانت تنقصنا عن الأسباب والملابسات الخفية
التى أدت إلى استقالته.. فقد كان كل ما نعرفه هو برقية تشمبرلين «على ماهر يجب أن يستقيل»!
وقررنا أن نتصل بعزيز المصرى لنعرف منه كل التفاصيل الخاصة بمتاعبه فى الجيش وتدخل الإنجليز،
ولكى نأخذ رأيه فى ما نُقدم عليه من عمل كبير، وراح كل منا يفكر فى الأجواء المحيطة به
عن الوسيلة التى يتم بها الاتصال بالرجلين دون إثارة شبهات المخابرات البريطانية.
وأخيرا جاءت الصدفة فى مولد النبى.
الزمن: ليلة مولد الرسول من عام 1940.والمكان: سلاح الإشارة فى المعادى، وكنت آنذاك ضابطا برتبة ملازم فى هذا السلاح…
ومولد الرسول فى مصر موسم من مواسمها يعرف الأطفال فيه بعرائس الحلوى والأحصنة الصغيرة الملونة،
يركبها فرسان العرب. وتصرف فى البيوت والدواوين والمجالس النيابية ودوائر السياسية
وقصور الأغنياء الحلوى الحمصية والسمسمية.. ثم لا شىء بعد ذلك!
وعلى هذا الوجه مرت بمصر تلك الليلة كما مرت بها دائما، ولكنها لم تمر بى كذلك، فقد كانت من حيث لا أدرى
ليلة البدء لأحداث كثيرة متتابعة سمع المصريون أطرافا منها، بعضها خافتا كالمسدس والآخر مدوِّيًا كالقنابل والمتفجرات!
الرجل ذو العباءةكان جلوسنا فى إحدى غرف السلاح، نتناول العشاء ونتكلم.. وكان جنود السلاح -وأغلبهم بطبيعة عملهم فى سلاح الإشارة
فنيون متطوعون- قد اعتادوا منى كثيرًا أن أحاضرهم،
واعتادوا منى دائما أن أتناول طعامى معهم، وأن أحدثهم بصراحة وأن يحدثونى بمثلها.
كنا فى أثناء استراحتنا وطعامنا، إخوانا مصريين لا ضباطًا وجنودًا.. ودخل علينا ونحن جلوس للعشاء
فى ليلة مولد النبى جندى من جنود السلاح الفنيين لم يكن موجودا بيننا منذ بدء هذه الجلسة،
وقدَّم إلينا صديقًا له يلتحف بعباءة حمراء لا تكاد تظهر منه شيئًا كثيرًا.
لم أكن أعرف هذا الرجل إلى ذلك اليوم، ولم يُثر دخوله ولا ملبسه اهتمامى، ولم يلفت نظرى،
وكل ما هناك أننى صافحته، ورحبت به ودعوته إلى تناول العشاء معنا، فجلس وتناول العشاء، وفرغنا من الطعام
ولم أعرف عن الضيف شيئا إلا بشاشة فى وجهه، ورقة فى حديثه، وتواضعا فى مظهره، ولكنى عرفت بعد ذلك عنه شيئا كثيرا.
فقد بدأ الرجل بعد العشاء حديثا طويلا عن ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم. كان هو اللقاء الحقيقى الأول
بينى وبين هذا الرجل وبينى وبين هذه الذكرى. كان فى سمات هذا الرجل كثير مما يتسم به رجال الدين: عباءته ولحيته
وتناوله شؤون الدين بالحديث.. ولكنه بعد ذلك كان يختلف عنهم فى كل شىء.. فليس حديثه هو وعظ المتدينين،
ليس الكلام المرتب، ولا العبارات المنمقة، ولا الحشو الكثير، ولا الاستشهاد المطروق،
ولا التزمت فى الفكرة، ولا ادعاء العمق، ولا ضحالة الهدف، ولا الإحالة إلى التواريخ والسير والأخبار!
كان حديثه شيئا جديدا.. كان حديث رجل يدخل إلى موضوعه من زوايا بسيطة، ويتجه إلى هدفه من طريق واضح..
ويصل إليه بسهولة أخاذة. وكان هذا الرجل هو المرحوم الشيخ حسن البنا، مرشد الإخوان المسلمين.
الموعد الأول
وانتحى الرجل بى ناحية، وتجاذب معى حديثا قصيرا، أنهاه بدعوتى إلى زيارته فى دار جمعية الإخوان المسلمين
قبل حديث الثلاثاء. كانت الجمعية آنذاك لا تزال فى دارها القديمة التى تشغلها الآن شعبة الجوالة التابعة لها.
عينان من بعيدوذهبت يوم الثلاثاء، ولم أكد أضع قدمى فى مدخل الدار حتى شعرت بكثير من الرهبة، وكثير من الغموض.
دخلت من حجرة كبيرة جدا من هذه الحجرات التى عرفت بها الأبنية المصرية القديمة. وقطعت هذه الحجرة بأكملها
لأنفذ من باب صغير. ونفذت من هذا الباب لألقى أمامى شيئا كممر طويل بين حجرات.
ولم يكن هذا ممرًا، وإنما كان مكتبه. كان صفوف طويلة من الأرفف المتقاربة الملتصقة بالحوائط،
وقد صفت عليها مئات كثيرة من الكتب، ملأت جو المكان برائحة الورق المخزون.
وعلى بعد كبير فى آخر هذا الممر، كانت هناك عينان فقط ترسلان بريقا قويًّا
هما كل ما يظهر من الرجل الجالس خلف مكانه، وتحدثت مع الرجل طويلا فى ذلك اليوم.
ولكنه لم يفتح لى كل نصبه.. تحدث معى كثيرا، ولكنه لم يخرج عن دائرة الدين أبدا.
وحصر نفسه فى هذه الدائرة، ولكنه جعل يتسع بمحيطها شيئا فشيئا، حتى أصبحت أفقا كبيرا مليئًا بالمعانى.
ورغم كل المحاولات التى بذلتها لأدفع به إلى حديث السياسة فقد فشلت، ورغم كل ما تطرق إليه الحديث فقد ظل الرجل
ملتزما ناحية الدين، وإهمال الناس له، ورسالة الإيمان التى يجب أن يرتكز عليها جهادنا، ووجوب نشر هذه الرسالة فى صفوف الجيش.
سؤال خطيروتكررت زياراتى بعد ذلك للرجل، وبدأنا نتحدث فى كثير من الشؤون العامة. وبدأت أوقن أن الرجل يطوى صدره فعلا
على مشاريع كبيرة وخطيرة. لا يريد أن يفصح عنها. كما أيقن الرجل أيضا أننى لا أنتوى الانضمام إلى جمعيته،
ولعله شعر أو أدرك أننى أعمل شيئا، وأنى لست أعمله وحدى. ولم يتردد الرجل فى أن يعرض علىّ الانضمام إلى جمعيته،
كما أنه لم يحاول أن يسألنى عن أى صلة لى بآخرين. ولكنى فهمت أنه كان يدرك أشياء كثيرة من الحقيقة فى مناسبة جاءت بعد ذلك بأيام.
وفى يوم ما نزلت معه وكنت ثائرا مكتئبا تملؤنى المرارة والألم. فقد صدرت الأوامر فى ذلك اليوم
بإعطاء الفريق عزيز المصرى إجازة من رئاسة أركان حرب الجيش.
وكان معلومًا لنا أن وراء هذا العمل أيدى الإنجليز، وكان مجرد العلم بهذا كافيا لإثارة نفوسنا
ودفعنا إلى أى عمل قد يراه الكثيرون -فى مثل ظروفنا- من أعمال الجيش!
الذين خانوا الجيشفقد كنا نعرف ما أراده عزيز المصرى لجيش مصر من قوة ومنفذ، وكنا قد بدأنا ننتعش بالنهضة الفعلية التى بعثها الرجل فى الجيش..
وكنا نسمع كثيرا من القصص التى تروى عن محاولات عزيز المصرى الإصلاحية والمشكلات والعقبات التى توضع أمامه،
والأحابيل والشراك التى تنصب له، والتى عرفت بعد ذلك -للأسف الشديد-
أن الذى كان ينصبها له هم من كبار ضباط الجيش المصرى نفسه!
وكنا قد تحققنا من الشَّرَك الأخير، شرك الخيانة الحقيقية. هم من الضباط الكبار.
فقد جمع الفريق عزيز المصرى إجراءات الجيش كله ليسألهم عن مدى حاجتهم فى أسلحتهم،
وإلى جهود البعثة الإنجليزية، ومدى ما حققته هذه البعثة فعلا من الإصلاح.
وكان الجيش كله ما عدا هذه الفئة يتمنى اليوم الذى تزول فيه وصمة البعثة الإنجليزية من وحداته وأسلحته،
وتكلم عزيز المصرى مع الضباط الكبار كلام مصرى لمصريين، وكلام قائد لضباطه.
ولكنهم خرجوا من هذا الاجتماع لا ليفكروا ولا ليبحثوا ولا ليسكتوا. ولكن لكى يذهبوا إلى السادة الإنجليز ويقصوا عليهم
حديث قائدهم. وعادوا إليه فرادى. عاد كل منهم وطلب مقابلته لكى ينهش فى لحم الآخرين.
ولعل كل منهم كان يرمى من وراء ذلك إلى الظهور أمام الرجل بمظهر الوطنى نفيًا للشبهة عن نفسه،
وإلصاقا بها فى الآخرين، وإذا حدث أن وقعت الواقعة وعلم الرجل حديث الخيانة.
ولكن عزيز المصرى فهم كل شىء، وأدرك أنه بين جماعة من اللواءات
لا يَفضُل واحد منهم أخاه إلا فى الخسة والدنس وبطلان الضمير.
الجمهورية 19 ديسمبر 1953