«ما الذي خرجت به من هذه الدنيا؟!.. صحيح ما الذي يمكن أن يخرج به الإنسان من هذه الدنيا؟.. والجواب: لا شيء..
لأنك إذا قلت أنك خرجت من هذه الدنيا بشيء، فأنت لا تعرف ماذا تقول.. لأنه لا أحد يخرج منها بشيء..
فالذي يموت لا يترك شيئا لأحد.. لأنه بعد وفاة الإنسان لا أحد.. فكل الناس بعده لا شيء أيضًا.
وإنما الذي يحدث هو أن الإنسان كما دخل الدنيا سوف يخرج منها.. كان وزنه ستة أرطال،
وسوف يخرج منها ووزنه ستون رطلًا.. دخلها سليمًا وخرج منها مريضًا.. أو تقول لنفسك:
كل هذا التعب والعذاب في الدنيا والنتيجة ماذا؟.. لا شيء».
هنا يودع أنيس منصور «فيلسوف الحب والسياسة» من يقرأون سطوره في «الأهرام» تحت عنوان «مواقف»
قبل 3 أيام من رحيله، بفلسفة لا ترى أن الحياة ستعطي لمن تركها أي شيء، لكنه بما كتبه ترك ولو شيء!!
عاشق الفلسفةيعشق أنيس منصور، ابن مدينة المنصورة، والذي ولد في 18 أغسطس 1924، الفلسفة التي تجدها في سطور ما يكتبه،
فبعد تفوقه في دراسته وحصوله على المركز الأول بين أقرانه في الثانوية العامة، توجه لجامعة القاهرة،
ودخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه، وحصل على ليسانس الآداب عام 1947، وعمل أستاذًا في القسم ذاته،
لكن في جامعة عين شمس لفترة، ثم تفرغ للكتابة التي يحبها، فيقول: «أنا أريد أن أكتب أدبًا وفلسفة،
فأنا لا أحب العمل الصحفي البحت، فأنا أديب كنت وسأظل أعمل فى الصحافة».
أنيس منصور له عادات خاصة فى الكتابة، فهو كان يكتب فى الرابعة صباحاً ولا يكتب نهارًا،
وعُرف أن من عاداته أيضا الكتابة، وهو حافي القدمين ومرتديا البيجامة، كما عُرف عنه أنه لا ينام إلا ساعات قليلة جدًا،
وكان يعانى من الأرق، ويخشى الإصابة بالبرد دائما.
وأجاد أنيس منصور عدة لغات بالإضافة إلى العربية، هي «الإنجليزية، والألمانية، والإيطالية»،
واستغل هذه الإجادة فى ترجمة عدد من المسرحيات، والروايات، والكتب، كما ترك مؤلفات متنوعة منها «حول العالم فى 200 يوم»،
و«بلاد الله لخلق الله»، و«في صالون العقاد كانت لنا أيام»، و«أعجب الرحلات فى التاريخ»، وكان بمثابة «الكاتب الرحالة».
فلسفته السياسةكتاباته الفلسفية جعلته يرسم الواقع الذي يعيشه بكلمات قصيرة ممزوجة بشهادات مأخوذة من صفحات التاريخ،
لكنها في الوقت نفسه كلفته الايقاف عن عمله في «دار أخبار اليوم»، وبالتحديد في 27 ديسمبر 1961،
لأنه تحدث عن الرئيس جمال عبد الناصر دون أن يشير إليه، لكنه حكى من التاريخ ما يشبه الحال الذي تعيشه مصر،
فيوضح بقوله: «كتبت مقالاً بعنوان (حمار الشيخ عبد السلام)، وفي المقال غمز ولمز وايماءات وإسقاطات واضحة،
فقد كانت صورة لأعماقي الغاضبة الساخطة على الذي أصابنا جميعًا.
وصدر قرار الفصل، وبقى الألم في نفس أنيس منصور، لدرجة جعلته ينشر سلسلة من المقالات بعد ربع قرن من فصله،
يتحدث فيها عن «عبد الناصر.. المفترى عليه والمفترى علينا»، ينتقد فيها «دراويش الرئيس جمال عبد الناصر»،
ومستنكرًا فيها أن يصفوه بأنه «لا ينطق عن الهوى، ومعصوم عن الخطأ»،
معتبرًا ما يروجونه «إهانة للإنسان، وتجاهل لويلات ملايين المصريين والعرب».
هكذا يختلف أنيس منصور مع «السلطة الناصرية»، لكنه يتجه بعد ممات عبد الناصر إلى صداقة
«الرئيس المؤمن» محمد أنور السادات، فيكون معه وقت الحرب ووقت السلم، فيلسوفًا عنيفًا في مقالاته ضد إسرائيل،
ثم تتبدل السطور ناحية سلام بشعار «اعرف عدوك».
شعار «اعرف عدوك» الذي رفعه أنيس منصور بعد انتصار مصر في حرب أكتوبر ١٩٧٣،
ليدخل به إلي قلب الجانب الإسرائيلي ويقدمه للشعب المصري من خلال مقالات، كان هدفها أن يتعرف الشعب المصري
علي عدوه الإسرائيلي ليواجهه، جعلته في الوقت نفسه متهمًا بالتطبيع مع إسرائيل.
وطلب أنيس منصور مرافقة السادات في رحلته الشهيرة إلي القدس، فترك رحلة الحج قبل أن يلبس ملابس الإحرام،
وعلي الفور أرسل إليه السادات طائرة خاصة عاد بها أنيس وزوجته إلى القاهرة ومنها إلى القدس.
ويقول أنيس منصور عن تلك الرحلة: «لم تكن مشاعري واضحة تجاه سفرية إسرائيل، فلا أعرف هل هي مغامرة،
أم انتحار، أم شجاعة، ولكن كل ما أعرفه أنه حدث تاريخي، وموقف وطني اخترته عن اقتناع..
بل إن أكثر ما أبهرني في تلك الرحلة، أن المواطن الإسرائيلي نزل إلي الشارع أثناء مرور موكب السادات ليتأكدوا من وصوله،
وهنا قال لي السادات.. مبروك لقد استعدنا سيناء، لأن الشعب الإسرائيلي هو حاكم هذا البلد».
فلسفته في الحبفلسفته السياسية كانت تعيش رومانسية يداعب بها قلب من تقرأ له، ويشاغبها كل جمعة، في مقاله بصحيفة «الأهرام»،
لكنه كان يستحق لقب «فيلسوف الحب»، فيكتب:
«الحب مرض من الأمراض، وفي هذا المرض ترتفع درجة الحرارة»، و«الذي يحب هو المريض دائمًا، هو الذي يشكو ولا يدري أين الألم»، و«الحب هو أن تعطي دائمًا».ويشرح لك فلسفته في الحب، قائلاً:
«الذي يحب هو الذي يجعل حياته تفسيرًا لهذين الحرفين: ح.. ب، ولا ينطق بهما.. وإنما يجعل الحب ورقة خضراء، ويجعل الورقة تتحول إلى زهرة، والزهرة تتفتح، ويكون لها عطر»، ثم يباغتك بعد ذلك، بقوله: «فإذا كانت هذه هي حالك أيها القاريء.. فأنت تحب.. أما إذا لم يكن لهذا الكلام معنى لديك.. فأنت رجل عاقل.. واسمح لي أن أعزيك في عقلك.. فالعقل الذي يمنعك من الحب ليس عقلاً.. إنه منتهى الجنون.. آسف.. اعذرني.. فإني أحب».وبنفس كلامه العاشق لـ«فلسفة الحب» يشاغب أنيس منصور المرأة، بقوله:
«في الديمقراطية: صوتك.. في الزواج: صويتك!»، و«نهاية كل حي: الضرائب والزوجات»، و«ميزة واحدة لتعدد الزوجات.. أنهن يتشاجرن معا.. وليس مع الزوج!»، و«محسود من الجميع: من مات أعزب!». نهاية الفلسفةرحيله جاء على يد التهاب رئوي أعاد روحه إلى السماء، في 21 أكتوبر من عام ثورة الخامس والعشرين من يناير،
لكنه ترك حكمة فلسفية لمن يقرأ له في «الأهرام» يوم مماته، قائلا: «قد يجيء وقت نعجز فيه عن رفع الظلم..
ولكن يجب أن يكون هناك وقت للاحتجاج علي ذلك»، وشاغب بكلمة أخيرة تقول:
«كثيرًا ما كان الدواء أسوأ من الداء: كالحب والزواج!». [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]