تحتفل معظم شعوب العالم اليوم، ومعها فنادق الخمس نجوم والمنتجعات المصرية، بـ(الهالُووين) الذى أصبح غنيا عن التعريف.
أما الشعب المصرى فلم يحرم نفسه من عيد الرعب هذا، فقام بتحويل العيدين «اللى حيلته»، وهما العيد الصغير والكبير،
الفطر والأضحى، إلى أعياد رعب هالووينى من النوع الممتاز، حيث يصبح مجرد السير فى الشارع معادلا
لاقتحام بيت الأشباح فى مدينة الملاهى! وفى مجاز آخر، تخلو شوارع القاهرة والإسكندرية من الناس وأولاد الناس،
لتصبح مسرحا لكائنات زومبية مفترسة وكائنات أخرى أنثوية مراهقة تقوم بأدوار الفريسة،
فى مسرحية تحرش موسمية تستهلك مخزوننا من القرف والإدانة، ثم تمضى الحياة!
ليست الظاهرة بالبساطة التى يمكن أن تُعبّر عنها تعليقات من مثل:
مافيش تربية ولا أخلاق، أو البلد باظت، أو حتى الدنيا كلها باظت.
ولكن قبل أن أتطرق إلى الظاهرة نفسها لا بأس من هامش للتساؤل عن غياب أشاوس الإخوان وصناديد السلفيين
عن الجهود الشعبية الشبابية لفرض حد أدنى من الحماية للبنات! أم أن النعرة والنخوة لا تستفز
إلا فى حالات المقولات الكبرى كالهوية والشريعة، وإلا بتوجيهات مباشرة ممن لهم الأمر وعليكم الطاعة؟
فى الواقع تحرك السلفيون فى العيد، مأسوف عليه وعليهم. لكن حركتهم كانت لفرض انضباط ما حسب رؤية سياسية وطائفية،
ولا علاقة لها بـ«جاهلية» المجتمع الذى تشكل جاهليته -من وجهة نظرهم- سبب وجودهم الوحيد.
تحرك هؤلاء لفض احتفال غنائى فى المنيا يضم شبابا من الأقباط والمسلمين
يدعون إلى هارمونية تعددية فرحة بتنوعها، ربما توازى هارمونية النغم الموسيقى.
هل هناك علاقة بين الكرسى فى كلوب الحفل الغنائى، وبين هالووين التحرش فى الأضحى؟ أجل.
أولا: لا بد من معاينة الخلفية الطبقية الاجتماعية والثقافية لجمهور الأعياد، وكذلك تصنيفهم العمرى.
إننا نتحدث هنا عن جموع من المراهقين من سكان الأحياء الشعبية والفقيرة.
ثانيا: لا بد من ضبط توصيف (جنسى) الشائع المرتبط بالفعل المشار إليه بـ(التحرش الجنسى).
فمن المؤكد أن اعتداءات يقوم بها مراهقون «ذكور» على مراهقات «إناث»، أمر له بُعد جنسى،
ولكننى أزعم أنه بُعد شكلى تماما. فقط لنسأل أنفسنا: هل ما نراه أمامنا من كر وفر وشد وجذب، على رؤوس الأشهاد
وبين الآلاف وتحت الشمس وأمام الكاميرات، هل هذا يمكن أن يحقق متعة جنسية ما؟ مستحيل.
لا بد إذن أن فى الأمر رسالة أخرى، أعمق وأكثر تعقيدا. الرسالة تتعلق بـ«الحرية»،
الحرية ذاتها التى ذهب السلفيون ليغتالوها فى حفل المنيا.
أشرت فى مرة سابقة إلى جهود عالم المخ والأعصاب بنجامين ليبيت، وتجربته التى أثبتت أسبقية
قرار أن يؤدى الجسد فعلا ما، على القرار الواعى بأداء هذا الفعل! الفارق أجزاء من الثانية ليس أكثر،
لكن معناها من الضخامة بحيث ينفى فكرة الحرية الإنسانية فى الاختيار من أساسها.
فأنت تظن أنك تقرر وتختار، ولكن كيمياءك العصبية تقرر حسابيا قبل أن تعلم أنت، بل إن جسدك نفسه يعلم قبلك!
لكن ليبيت نفسه يطرح رؤية عبقرية لمعنى الحرية، إذ يقول إنه خلال هذه المسافة الزمنية الضئيلة، نحو ثلث أو نصف ثانية،
يمكنك بحريتك واختيارك أن توقف الفعل! وهكذا تكون الحرية الإنسانية ليست متجلية فى قرار الفعل، وإنما فى قرار عدم الفعل.
من اللافت جدا أن هذه الرؤية تتقاطع مع أغلب النسخ القديمة للنظام الأخلاقى الدينى. أعنى مثلا الوصايا العشر.
إنها «نَواهٍ» أكثر منها أوامر: لا تقتل، لا تسرق، لا تنظر إلى زوجة جارك، إلخ…
الوضع فى هالووين التحرش يمضى خطوة أبعد فى التعقيد. سأزعم أن الشبان، والشابات،
يمارسون نوعا أعنف من الحرية فى العيد، كرد فعل احتجاجى، بل انتقامى على غيابها فى كل وقت آخر.
إنهم «يختارون» أن لا يمنعوا أنفسهم من همجية طبائع طائشة غفل. يرفضون أن يطبقوا على أنفسهم قواعد أخلاقيات
تجرى خيانتها واغتيالها يوميا فى كل مناحى الحياة الأخرى. إنهم يلقون فى وجوهنا بقبحنا مجسما.
لا يحظى هؤلاء بتعليم حقيقى. لا يحظى العلم والمعرفة فى مجتمعهم بما يجعل لتعلمهم معنى.
ليست لديهم ملاعب ولا شوارع نظيفة ولا غرف خاصة بهم فى بيوتهم الفقيرة المكدسة. يهرسهم الآباء ويهرسهم
المدرسون ويهرسهم الشاويش ويطحنهم أصحاب العمل المبكر.. ورغم اقتناعى بضرورة مراعاة (قواعد الصحة والصواب)
سياسيا واجتماعيا، بمعنى اعتبار البنات ضحايا لا يجب سوى الاصطفاف معهن فى هذا الموقف،
فإنى فى الحقيقة أرى أنهن من طرف خفى يشاركن فى هذا الاحتجاج المسرحى التراجيدى الصارخ، وإن بلعب دور الضحية،
وإنى لأتعاطف معهن حتى من هذه الزاوية المحرومة من الاختلاط والحب والتجربة والنمو والاكتمال.
يأخذ الغرب نصيب الاحتفال الكوميدى بالهالووين، بينما نصيبنا نحن هو التراجيديا.
وإذا تابعنا الصورة الإغريقية للمجاز، فهم يحققون فى هالووينهم الكوميدى معنى من التطهر،
بينما تهددنا تراجيديا واقعنا المؤلم بصدام ليس له اسم سوى «التطهير»، ويا لها من كلمة سيئة السمعة!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]