ومن أين لى فى هذه السن بالعافية والوقت والصبر، وكل ما يحتاج إليه الإبداع لأكتب حكاية شعب من أغنى شعوب الأرض
تخصص فى منح مفاتيح إدارة كنوزه الطبيعية والبشرية للصوص والنَّوَر والعصابات، وإلى آخر من يصلح
وآخر من يستحق من أبنائه بل وأيضا من غزاته، ويتيح لهم أن يتمكنوا ويتسلطوا ويتورموا وينهبوا كنوزه..
بينما هو -السيد الشعب المنهوب والمسروق والمستذَل- يكتوى بنيران الفقر والجوع والاستبداد، يتوسل ويتسول
أدنى حقوقه الإنسانية.. تلح علىَّ الخاطرة كلما شاهدت دليلا جديدا عليها.. وفى طقوس عيد الأضحى هذا العام
شاهدتها أقسى وعشت ما تعنيه ثورة الجوع، وحدث فى قلب القاهرة وفى محافظات بعيدة، نقلوا لى من هناك المشهد
الذى يكاد يكون واحدا، أقصد ما حدث عند ذبح وتوزيع الأضاحى فى أماكن تتيح للناس أن يلتفوا حولها
ليأخذوا أنصبتهم منها، ما لم أشاهده إلا هذا العام أن طقوس التوزيع التى كانت تتم فى تراحم تحولت
إلى معارك وتناحر.. لا أبالغ إن قلت كاد الأمر يكون اقتتالا! كل عام كان يحدث التزاحم ولكن أبدا لم يكن
بهذا العنف والغضب والقسوة والاستعداد للموت فى سبيل لفافة لحم قد لا تتجاوز الكيلو أو نصفه! هل استنفدوا
أرصدة الصبر والاحتمال عبر تاريخهم القديم والحديث؟! هل طار ما تبقى فيهم من عقل بما سمعوا عن صفقات
وأرقام النهب الحديث التى تفوقت على ما سبق وربما على ما يمكن أن يأتى بعد؟ هل استوعبوا الأرقام الخيالية
للمليارات التى نُهبت منهم والتى لو وُزعت على ملايين الفقراء والمعدمين والشباب العاطل لأغنتهم وكفتهم؟!
هل جُن جنونهم من معارك لا تغنيهم ولا تشبعهم من نخب ومسؤوليين يعيشون غيرهم ويلبسون غيرهم
ويعلّمون أولادهم غيرهم ثم يدّعون أنهم منهم.. بأى أمارة! ماذا بعد المعارك وتبادل الاتهامات بينما الواقع
لا يتقدم بل يتراجع ويزداد سوءا؟! سمعوا عن الثورة وشارك أولادهم فيها ورجعوا إليهم جثثا، وعرفوا
أنه لم يتم القبض على قاتل واحد أو مسؤول واحد عن القتل.. وجرحى يتساقطون أمامى فى معارك
توزيع أضاحى العيد أو فى مقدمات ثورة الجوع، تساءلت هل السادة الذين يشتبكون الآن فى حروب الجشع السياسى
وتقسيم الغنائم والمصالح بعيدا عن مصالح بلدهم، هل يعيشون فى مصر؟ وهل يقرؤون جيدا دلالات ما يمتلئ به
الواقع من مخاطر وتحديات وتمتلئ به الصدور من غضب وإحساس بالمهانة؟! أشك كثيرا أنه هناك أى قراءات
أمينة للمستوى الكارثى الذى يعيشه الملايين من جموع المصريين.. كيف يأملون الخير فى دستور لم يكن قاطع
ا وواضحا وفاصلا وحادا فى فرض العدالة الاجتماعية قاعدة وأساسا للحكم، وسواء فى الحقوق والدخول
والتعليم والصحة والعلاج والرعاية الاجتماعية والمواطنة؟ ماذا سيفعلون إذا ازداد الجوع والغلاء وبطالة الأبناء
وعرفوا الأرقام الحقيقية للمليارات التى نُهبت منهم، وبعضهم ما زال يبحث عن طعامه فى صناديق القمامة
أو يقتتل عليه فى مناسبات مثل أضحيات العيد؟! أليس الساكت عن الحق شيطانا أخرس؟! ماذا يمكن أن يحدث
إذا خرجوا لينتقموا من كل الشياطين الخرس؟! ماذا لو خرجوا يبحثون عن مليارات الصناديق الخاصة
وعن الوطن الذى خرجوا على أمل استرداده واسترداد حقوقهم فيه بالثورة؟ أليس من حقهم زرع قليل
من الأمل بأن يقال لهم ما الذى عاد من المسروقات ومن الأموال ومن الصناديق، وكيف تدار مواجهات الأزمات الاقتصادية
دون إغراقهم فى مزيد من الديون ونيران الغلاء؟! لقد سرقت عصابات ما قبل الثورة كل ما طالته أيديهم،
والآن تدار الأمور باعتبار أنه على المسروقين والمنهوبين أن يدفعوا فواتير السادة اللصوص..
لماذا لم تُعلَن المراجعات وكشوف الحساب.. ما دوافع هذا الصمت؟ فى ما نُشر عن لقاء رئيس الوزراء مع رؤساء التحرير
قرأتُ أرقاما مخيفة عن الأوضاع الاقتصادية، أن متوسط معدلات الفقر وصل إلى 25٪ فى الحدود الدنيا،
وفى بعض مناطق الصعيد وصلت معدلاته إلى 80٪ بينما وصلت نسبة البطالة إلى 13٪ وخريجو الجامعة
هى النسبة الأعلى بينهم، وأن متوسط دخل الفرد فى اليوم أقل من 12 جنيها بينما بلغ الدين العام تريليونا
و200 مليار جنيه، ومرشح للتضاعف إلى تريليونين و800 مليار بعد أربع سنوات إذا استمرت معدلات الإنتاج
والتنمية دون تقدم يُذكَر! إلى من يصدق أن ميزانية التعليم 64 مليار جنيه منها 50 مليارا لبند المرتبات
بينما الـ14 مليارا المتبقية هى ما يُنفَق على العملية التعليمية لـ90 مليون مصرى، أى أن نصيب كل طالب
خمسة جنيهات خلال العام الدراسى بطوله، وهو رقم لا يقدَّر لأن الواقع أنه لم يعد يتعلم فى مصر
إلا الأغنياء والقادرون على نفقات التعليم والجامعات الخاصة.
أين كشوف الحساب التى تكشف هل تم تعديل الدخول الفاخرة والفاجرة التى ما زالت تتجاوز شهريا آلافا مؤلفة؟
هل استُرِدَّت الأموال من الذين أوصلوا ديون قطاعات كان يجب أن تكون من مصادر دخل الشعب
إلى قطاعات مدينة بالمليارات كقطاع البترول وشركاته المدينة بأكثر من 60 مليار جنيه!
لماذا لا يُعلَن على المصريين خُطَط المواجهة واسترداد بعض -بعض فقط- مما تم نهبه فى عصر النهب العظيم؟!
لماذا لم تصادَر ممتلكات المتهربين الكبار من الضرائب، العقارات والممتلكات الموجودة داخل مصر
والتى لم يستطيعوا تهريبها كالمليارات؟ ما زلنا حتى هذا الأسبوع نرسل الوفود لفحص
ما يطلقون عليه ملفات الأموال المهربة إلى الخارج، كأن هناك أموالا يمكن العثور عليها بعد عامين من قيام الثورة!
المدهش أن المصريين الذين يتسولون القروض ما زالوا ينفقون على من نهبوهم، وبعد كل ما تَكشَّف من مليارات منهوبة
وثروات تم تهريبها خصوصا فى الأيام الأولى للثورة، وكم تتكلف بعثات التنقيب عن الأموال التى هربوها وضيعوا كل أثر
يقود إليها؟! المهازل والمساخر والاستخفاف بالشعب وصلت إلى تمكين اللصوص
من التنازل عن بعض المسروقات العينية والعقارية التى صعب عليهم تهريبها!
لا أظن أن من الجوع ما هو أقسى من الاقتتال الذى شاهدته على أضحيات العيد.. ولا من الفقر المادى والمعنوى
أقسى من فقر يستذلّ النفوس والكرامة الإنسانية إلى الدرجات التى شاهدت.. الأقسى من كل شىء أن يكون أهل هذا الفقر
المذل والمستذِلّ أصحاب مليارات وثروات منهوبة ومسروقة ولو استُثمرت بأمانة وعدالة وكفاءة لكانوا من أغنى شعوب الدنيا،
كيف بعد عامين من الثورة لا توجد رؤية وخطة وخطوات لبرنامج للعدالة الاجتماعية على رأس أولوياته
استردادُ ثرواته المنهوبة وتعظيم برامج التنمية وإعادة هيكلة وتوزيع الدخل القومى؟
وسط الأخطار الخارجية والداخلية ومخططات التخريب التى تدار بشيطانية والحرائق التى تشتعل فى كل مكان
وأحدثها محطات الكهرباء فى طلخا والتبين ومرسى مطروح، لا صمام أمان أكثر أهمية من شعب آمن ومطمئن والملايين
من المصريين الآن أبعد ما يكونون عن أى إحساس بالعدالة والكرامة وأن يتحصلوا
على حقوقهم من أن يعيشوا ويعملوا ويتعلموا ويجدوا العلاج فى مستشفيات آدمية.
لو أن بيدى إهداء جائزة الصورة الصحفية لهذا العام لأهديتها إلى محمود طه ولقطته التى نشرتها «المصرى اليوم»
على صفحتها الأولى 29/10 بعنوان «أطفال السرطان يُعالَجون بالكيماوى على سلالم مركز أورام جامعة الإسكندرية»،
وإن ظلت ليست الصورة الأبشع ولا الأقسى عما وصلت إليه أحوال المصريين.
■ احذروا.. واحذروا.. واحذروا.. وسارعوا إلى الأخذ بجميع الأسباب التى تستعيد لهم الحدود والحقوق الإنسانية
فى الحياة ابتداء بدستور يجعل العدالة الاجتماعية أساسا وعمودا فقريا للحياة فى مصر. لقد رأيت بعينَىّ وسط ما يبدو
أنه طقوس العيد مقدمات انفجار ثورة الجوع.. ومن لا يرَها فى كل ما يحدث فى الشارع الآن فهو لا يعيش فى مصر.
■ أذكِّركم بمقولة الصحابى الجليل أبى ذر الغفارى «عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج على الناس شاهرا سيفه»
، أليس هذا ما يجب أن يتصدر فقه الأولويات وفقه الواجب والأصول فى العمل السياسى لجميع التيارات والأطياف الوطنية؟!
لقد احتمل المصريون ما فوق طاقة البشر، فاحذروا نفاد ما تبقى إن كان قد تبقى شىء من أرصدة الصبر،
ويكفى السيوف المُشهَرة على مصر من أعدائها فى الداخل والخارج ومن سارقيها وناهبيها.. ومن كل من له ثأر مع ثورتها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]