لو قرأت فى التراث العربى ثم الإسلامى القديم لن تجدى صفة «إنسانى» بالمعنى الذى نستخدمه اليوم كوصف
للفعل الذى يحمل «الراقى من الحس الإنسانى»، لكنك ستجدين صفة مهملة جدا، لا نكاد نستخدمها فى حياتنا اليومية،
وذى صفة المروءة. وهى مشتقة بعناية، وبقصد، وبذكاء لغوى حاد، من لفظة المرء ومعادلها الأنثوى المرأة.
فى علم الرجال، علم الجرح والتعديل، العلم المعنىِّ بدراسة أخلاق رواة الحديث قبل تصنيفه، ترد هذه الصفة كثيرا، لماذا؟
لأن العلم كان يرتكز على ما وراء الشخصية الظاهرة، التقى والورع الظاهران لم يكونا عاملين حاسمين فى قبول رواية الشخص.
بل هناك عوامل أخرى، مثل المروءة، تجدين فى الكتب القديمة حديثا عن شخص، ومديحا فيه،
ثم تجدين أن العالم الفلانى لم يقبل منه رأيا لأنه كان، على سبيل المثال، يأكل فى الشارع، ليس هذا حراما ولا «عيبا»،
لكنهم كانوا يستخدمون له تعبير «من خوارم المروءة». بلغتنا الحالية،
فعل يفتقر إلى الذوق الإنسانى، وإلى الحساسية، لأنه -مثلا- قد يجرح مشاعر غير القادرين.
يقودنا هذا إلى ملاحظة سريعة عن علم الجرح والتعديل، أعلم أنها سترد إلى أذهان البعض،
لأنى قلت سابقا إن البخارى، راوى الأحاديث الأشهر، لو كانت لديه التكنولوجيا الحديثة،
لاستفاد كثيرا، لكننى هنا أمدح علم «الجرح والتعديل» الذى استخدمه. فكيف هذا؟
الجواب الذى لم يستطع الأصوليون فهمه أبدا أننى طبعا أمدح علم الجرح والتعديل كأحد العلوم العظيمة، فى زمانه.
هل يستوعب الأصوليون هذه الكلمة أبدا؟ هل سيأتى اليوم الذى تصل فيه معدلات ذكائهم
إلى الدرجة البسيطة الكافية لاستيعاب معنى عبارة «فى زمانه»؟! أتمنى ذلك.
ليس هذا عن علوم الدين فقط. علم الوراثة الذى وضعه مندل علم عظيم -فى زمانه،
لكن وراثة مندل يدرسها حاليا الطلاب فى ثالثة ابتدائى. لا يقلل هذا من عظمتها. إنما الطبيعة التراكمية للعلم
جعلت المعارف الحديثة أكثر تقدما. وما ينطبق على الوراثة والفيزياء والبيولوجى ينطبق على
«الجرح والتعديل» وغيره، مما تجاوزته «العلوم الاجتماعية» بمراحل.
لكن الأصولية لن تفهم هذا. الأصولى فى عبارة واحدة: شخص يعشق تجميد الزمان.
الأصولى الشيوعى يجمد الزمن عند كارل ماركس وبعض المقربين.
والأصولى الرأسمالى يجمد الزمن عند آدم سميث وبعض المقربين.
والأصولى الإسلامى (ومنهم الإسلامجية المصريون وكثير كثير جدا من المتعاطفين معهم) يجمدون الزمن عند النبى وبعض المرضىّ عنهم.
وكل واحد وواحدة من هذه التيارات الأصولية يعتقد أنه مختلف عن نظيره فى التيار الأصولى الآخر،
بل ويكرهه. أريد أن أقول لهم جميعا: أنتم أقرب إلى بعض أكثر كثيرا مما تعتقدون. حبوا بعض. كلكم ولاد (…..) زى بعض.
الأصولى لا يفهم معنى صفة المروءة، ولا صفة الإنسانية، ولا مرادفاتها. إذ هم لا يفهمون إلا ما يلقنهم إياه قادتهم.
وهذه صفة تصل إليها الإنسانة بمشاعرها وعقلها الصافى، وليس بالعقل المشوش والمشاعر المضطربة
بالأوامر عن الحب والكره غير المبررين. هذه صفة لن تفهمها أبدا من تقبلت ما قاله خالد عبد الله وضحك له النادر بكار
عن فتاة التحرير. لن تفهمها من تتقبل أن يُظلم إنسان بلا جريمة سوى أنه ولد أو حتى اختار عقيدة تخالفها،
ولن تفهمها من تتجبر على أقلية فى بلدها، فإن ذهبت إلى أوروبا أو أمريكا وصارت أقلية طالبت بالمساواة وبحرية العقيدة.
لن يفهمها كل هؤلاء الإسلامجية الذين يعيشون فى كنف المساواة الأوروبية، بينما يدعمون التمييز ها هنا.
باختصار لن تفهمها من تتجبر على الضعيف، وتطأطئ الرأس أمام القوى.
الوجوه السلفية التليفزيونية مثلهم مثل إخوتهم سدنة النظام القديم من كل الاتجاهات هى المثال الأوضح.
المروءة -أو الإنسانية- معيار بشرى وفردى بحت. ماينفعش «تجيبى عليها دليل» لو طلب منك ذلك
أحد مشوهى الحركات الإسلامجية، وأتبعها بضحكة سمجة. مش هتعرفى تردى عليهم. ونحن إذ تحولنا إلى أناس آليين
يتوجهون يمينا وشمالا بالإرشاد الأعلى، وإذ تحولنا إلى آلات حاسبة لمردود أفعالنا فى ضوء الحسنات والسيئات فقط،
سنحتاج كثيرا جدا، سنحتاج إلى أجيال، لكى نستعيد مروءتنا.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]