لا بأس لدى الإخوانجى أن يدعى أمام شخص حداثى أنه يحترم الحداثة ويحترم الديمقراطية،
بل ويحترم العالمانية «الجزئية» أيضا. ثم ينقلب ١٨٠ درجة حين يتحدث إلى الجمهور.
هل هذا مهم فى ما نتحدث فيه، ولا هو تلطيش فى الإخوان والسلام؟! فى الحقيقة، هذا ما نتحدث فيه نفسه،
لأن هذه التناقضات على المستوى الفردى هى نفسها التناقضات على مستوى العمل السياسى والدبلوماسى.
إن أرادت قطر أن ترسل طائرة مدنية ثم تدعى أنها اخترقت الحصار الإسرائيلى لمطار بيروت، أو أراد أردوغان
أن يوبخ الرئيس الإسرائيلى ثم يترك القاعة، أو يتوعد إسرائيل بالويل والثبور فى قضية مقتل النشطاء،
فإن بمقدورهما ذلك، لماذا؟ لأنها أفعال لا تكلفهما أكثر من انحناءة بسيطة لتصفيق الجمهور، ثم تمضيان إلى سبيلهما.
الجمهور نفسه لن يطالبهما بأكثر من ذلك، وعادة لا يسائلهما ليتأكد من حقيقة الفعل،
فهذا يرضى رغبته فى الإحساس بالانتصار تماما.
أما فى حالة مصر، فإن المسرح بيتنا. أى لغم ينزرع فيه سينفجر فينا، ثم إن الممثلين على المسرح
ليسوا كلهم تحت سيطرتنا، وبعضهم هدفه الأساسى تقويض السلطة المصرية. حماس تمثل على نفس المسرح،
الجماعات المسلحة فى سيناء تمثل على نفس المسرح، إسرائيل تمثل على نفس المسرح. وهناك الجمهور.
جمهور الإسلامجية، وهذا يطالب بالمزيد من الأكشن، ثم إن قطع التذكرة موعود بالمزيد من الأكشن،
وهو إذ يصفق لحركة مسرحية فإنه فى الحقيقة يطالب بالمزيد منها. وضع مختلف تماما عن قطر، التى لو صمتت سنة
لن يطالبها أحد بموقف، التى تتعامل مع
ها «الجزيرة» كما يتعامل زاحف مع ذيله،
يتخلى عنه إن شاء ويلتحم به إن شاء.
تركيا أيضا فى براح مختلف عن حالة مصر، لا تربطها بإسرائيل حدود مشتركة،
ولا اتفاقية أنهت نزاعا مسلحا داميا، ولا ثلث مساحة أرضها محدودة السلاح
وخاضعة لرقابة تضمن الالتزام بذلك، ولا عندها مشكلة أنفاق وتهريب،
كما لا تخشى من خلق مشكلة لاجئين إن تفجر الوضع فى غزة. ولا عندها اقتصاد يوشك أن ينهار.
الإخوان روجوا للأمريكان أنهم اللاعب المناسب الذى يستطيع تحويل مصر إلى حليف نموذجى لأمريكا،
وهذا ذكاء سياسى لا ألومهم عليه، بل -مع احترام كل المشاعر الوطنية- أرى أنه المخرج السياسى الوحيد لمصر حاليا
إن كان همها رفاهية أبنائها، وليس الحصول على تصفيق الجماهير، لكننى أشك فى قدرتهم على تنفيذه،
ليس بسبب التحديات المذكورة سابقا، وإنما بسبب التناقضات فى شخصية الإخوان المسلمين، التلون،
الذبذبة بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. بسبب الخطاب الخارجى المختلف عن الخطاب الداخلى.
مظاهرات «الفيلم المسىء» حدثت فى مصر ولم تحدث فى تركيا. دعاية التجييش لدى الإخوان المسلمين
قائمة على العداء للغرب، واحتقار منتجاته الفكرية من عالمانية وحداثة. والوعد بدولة على نهج السلف الصالح
تنتصر على «الروم» كما انتصروا. أما إسلامجية تركيا فقد بدؤوا بتعديل خطابهم الداخلى، خطابهم مع أنفسهم،
خطابهم مع جمهورهم، ومنه انطلقوا إلى السياسة العالمية، فظلت تركيا تحت قيادتهم دولة عالمانية
(بتصريح أردوغان نفسه)، ودولة مؤسسات، تضبط ردود أفعالها فى الحيز القانونى والمصلحة العليا للبلد،
ولا يتوقع شعبها أن يأخذ قادتها السياسيون قرارا مستندين إلى تفسيرهم لنص دينى. ولا أن يبنى قادتها
تحالفاتهم الخارجية والعسكرية -كعضوية حلف الناتو- بناء على ظاهر عقيدة الولاء والبراء.
هذا فارق مهم بين حزب ذى جذور إسلامية ينشأ فى دولة مؤسسية عالمانية، وبين أن توكل إلى أحزاب إسلامجية مهمة
بناء الدولة من الأساس. فتبنى دولة تتجاوز المؤسسات إرضاء لرجال الدين، وخضوعا لابتزاز الجماعات الدينية.
الفارق سياسيا أن الإخوان كرجل له قلبان فى جوفه، كل يشده بنفس القوة وفى الاتجاه المضاد،
والمحصلة ستكون صفرا على أحسن الأحوال، وتدهورا وتهديدا لأمن مصر القومى،
إن انجذب الإخوان خلف دعايتهم الداخلية.
هل وضحت فكرتى؟ الإخوان وضعوا عربة الجماهير أمام حصان الخيال السياسى،
وركنوا إلى الخيال السياسى المحدود الذى سقطت فيه مصر منذ تولى الأميون قيادتها قبل ستين عاما.
نفس عقلية النفق، لكن النفق الجديد مبتداه سراب الدولة السلفية الإسلامية النموذجية،
ومنتهاه نقطة الضوء، الحلم التركى. الطريق نفسها مظلمة، لا نتبين ما ينتظرنا على بُعد خطوتين، ربما حفرة أو هاوية.
والسقف محدود والطريق ضيق.. هذه وصفة انهيار، ليس لمصر وحدها،
بل ولفلسطين أيضا. غدا نعود إلى بيروت لنقرأ من دروس التاريخ الحديث.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]