أنا من الجيل الذى عاش طفولته الواعية فى الثمانينيات. افتتحها البلد باغتيال رئيس الجمهورية، وعاشها فى وضع اقتصادى خانق،
وصراع بين الدولة والجماعات الإسلامية. تربيت على أخلاق بُقلظ وماما نجوى، وعيب ومايصحش،
وبرافو عليك يا بقلظ علشان بتاكل وبقك مقفول. على برامج «اخترنا لك» و«نادى السينما» و«أوسكار».
وعلى الخيار المحدد بين القناة الأولى والثانية (وبرضه كنا نتخانق على القناة – تخيلى!).
فترة طفولة تلخصها بامتياز الصورة التى كانت فى تلك الفترة معلقة على ٩٠٪ من جدران شقق أبناء الطبقة الوسطى
– صورة الولد اللى بيعيط، اللى بينفس عن نفسه وعن الناظرين إليه الحزن والشجن والاختناق المكتوم فى نفوسهم.
لكننى كبرت الآن، والإنسان يتعلم بالزمن. وأول ما تعلمته أن أنسى الجملة التى سمعتها ألف مرة وأنا صغير:
«اللى أكبر منك بيوم، يعرف أكتر منك بسنة»
وبالتالى تعلمت أن أبحث عن الحكمة فى الأجيال «التى بعدى».
تعلمت من الجيل الذى بعدى أن اللطف فى وجه الغِلاظ ليس دائما الحل الأمثل. والألفاظ القبيحة
وكلمات الغضب وُجِدت فى اللغة، لأن لها وظيفة فى الحياة. وأن الإنسان لازم ييجى عند لحظة ويقول (…)،
ويقلع القميص، وعلىَّ وعلى أعدائى، هاضرب القلم الأولانى وبعدين اللى يحصل يحصل.
دون مبالاة بالشعارات المرفوعة أمامى. فما رفع أحد راية، إلا وكان له فيها غرض.
وكثيرا كثيرا ما يكون من الحكمة أن تطلق السهم الأول على الراية المرفوعة نفسها.
أحسن شباب. لقد هرمنا ونحن نواجه بالصمت هذا السيل من العجرفة والغباء والاستغباء والرثاثة وقلة الأدب.
وحان الوقت لكى نصرخ: كفاية!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] تعلمت من الجيل الذى بعدى أن الثقافة ليست فى دوائر المثقفين، الذى يعيدون ويزيدون نفس الكلام من ألف سنة.
وأن الثقافة لا علاقة لها على الإطلاق بالقهوة السادة والسجائر، ولا علاقة لها بالجلوس على مقاهٍ معينة.
كما أنها لا تنتمى إلى أصدقائك الذى يعملون فى الصحافة والفن والكتب.
الثقافة أكثر تنوُّعا بكثير مع أصدقاء فى شركات دعاية وإعلان، وشركات كمبيوتر،
وبين خريجى الكليات العلمية والمهتمين بالعلوم، وبين الحرفيين، بين كل الذى يجيدون ما يفعلون.
الثقافة مش مرتبطة بالنضّارة قعر الكباية ولا الحكايات عن الطفولة المعذبة، وقصص الحب الفاشلة،
والمجتمع «ذى الطبيعة الهيراركية والأطراف المتشظية»، لا أبدا، الثقافة مش هتقول للاستمتاع بالحياة لأ، دا ده غرضها الأولانى،
والبنت والولد اللى لابسين «سينييه» مش أعداءها ولا حاجة،
ولا خبرتهم فى الحياة أقل من خبرة المكافحين. كل إنسان وعنده خبرته وطرق التعبير عنها.
الثقافة مش أكتر من «وعى». نوعية المهارات اللى بتقدرى تكتسبيه والشغل اللى بتختاريه. الفيلم اللى بتشوفيه،
المجلة الأدبية أو الفنية أو مجلة الأزياء أو الميك أب أو الرياضة أو السيارات اللى بتقريها. هواياتك مهما كانت.
الألوان اللى بتحبيها. الموضوعات اللى بتثير انتباهك وبتحسى إنك عايزة تسمعى عنها أكتر.
اختيارك تمشى على الرصيف ولّا فى الشارع. مرة أخرى ثقافتك إن لم تجعلك أكثر قدرة على الإنجاز، ففيها حاجة غلط.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] تعلمت من الجيل الذى بعدى إذن أن الحياة أكثر تنوعا بطبيعتها،
إنما إحنا اللى بنخنقها بافتراضات لم تثبت نجاحها على أرض الواقع أبدا. «احترام الكبير» لا يبرر القبول بالفشل،
وإن كان الكبير نفسه لم ينجح، ففى هذا ألف دليل ودليل على أن نموذجه لا يصلح.
هذا أيضا تعلمته من الجيل الذى بعدى، أن الدليل على النجاح والفشل هو الإنجاز،
وليس المناقشة النظرية. لا سيما إن كانت نصف أبواب هذه المناقشة النظرية موصدة، وممنوعا الاقترابُ منها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] تعلمت أن أعبر عن نفسى كما هى، وليس كما يريدها من حولى. أطيل شعرى حين أريد وأقصره حين أريد.
أستمع إلى الموسيقى التى أريد، وأتوصل إلى القناعات التى تناسب مستوى ذكائى ومستوى إدراكى.
ليس لشريحة اجتماعية فضل على أخرى. ولا ينبغى لفرد ينتمى إلى شريحة اجتماعية ما
أن يقبل أن تُوضَع اهتماماته وقيمه فى ذيل القائمة. وإلا، فهذا هو الحال الذى وصلنا إليه بانسحابنا
وانهزامنا أمام الشعارات المرفوعة. لقد صرنا فى مجتمع مائل، أغنياؤه يعاقبون فقراءه بإهمالهم، وفقراؤه يعاقبون أغنياءه
بتنغيص حياتهم. تعلمت من الجيل الذى بعدى أن الهزيمة تبدأ داخل الإنسان،
وعليه فإن الانتصار لقيمى يبدأ من داخلى، وبعده لن يوقفه أحد.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] 
موضوع: فى معنى الثقافه ..ومقال رائع لـ / خالد البرى 
