عندما احتشد المتأسلمون وجاهدوا فى «غزوة الصناديق»، دخلنا جميعا «فى الحيط»،
فما الذى سيحدث إذا انطلقوا إلى «غزوة التعليم» لكى يصبغوه بطابع فهمهم للدين؟ سنخرج بالتأكيد من الحيط، ومن التاريخ أيضا،
من الحاضر والمستقبل معا، حكاية فرض الحجاب وقص الشعر فى الأقصر أعادت فتح الملف رغم عقاب وزير التعليم
الذى لا أراه كافيا، بيت الأعمال السلفى سيستثمرُ أيضا فى التعليم، أرى شبح غزوة جديدة مزعجة.
منذ عام تقريبا، قال لى سائق الميكروباص العجوز، مستعيدا أجواء الغزوة الأولى: «قعدوا يتكلّموا ويعيدوا ويزيدوا
بأننا لازم نقول نعم، ونحمى الشريعة والمادة التانية، ونحقق الاستقرار، ومن ساعة ما صدّقناهم وقلنا نعم، ما عرفناش طعم الاستقرار».
أجدُ كما ترى علاقة قوية بين غزوة الاستفتاء الكارثية، وبين غزوة أتوقعها ولا أتمناها فى التعليم،
الصلة فى توظيف الدين لأهداف سياسية صغيرة، لقد عرفوا أن المصريين يتجاوبون مع هذا المفتاح،
ولكنهم لم يشعروا بعد أن المصريين يكتشفون الخدعة بسرعة، هكذا يقول تحليل كلام السائق العجوز.
ولكن غزوة التعليم ستكون أخطر بكثير، لأنها ستعيد صياغة أجيال جديدة صغيرة على مثالهم،
أخشى أن يكون ذلك على طريقة نظام التعليم التلقينى خلال الخمسين عاما الماضية، الذى كان يتلوّن بلون النظام
وشعاراته المتغيرة من الاشتراكية إلى الانفتاح وصولا إلى استقرار الموت فى عهد مبارك.
نشأتُ وترعرعتُ وتعلّمتُ وتخرّجتُ فى ظل تعليم الحشد، وعندى حكايتان لم أنسهما أبدا من عهد الطفولة فى السبعينيات
تكشفان عن الأثر الممتد لهذا التلقين الذى يتسلّمه جيل من جيل، أحكيهما حتى لا يتكررا بصورة أخرى
إذا لبس التعليم العمامة والجلباب، مثلما ظهرت اللحية على كتاب «سلاح التلميذ»، أتمنى أن يخيب ظنى، آمين.
كنتُ فى سنة ثالثة ابتدائى، الزمان: منتصف السبعينيات فى مدرسة الإصلاح الزراعى الابتدائية فى نجع حمادى،
عندما سأل تلميذ من زملائنا الأبْلَة «إليس» عن شخص سمع عنه من والده اسمه محمد نجيب، انزعجت الأبلة الودود،
وطلبت منه، ومنّا، أن لا نذكر هذا الاسم على الإطلاق، ما زلتُ أشعر بذهول حتى الآن لأن جيل الأبلة «إليس»
ظل مسكونا بالخوف من سيرة محمد نجيب، ولم يستطع هذا الجيل أن يتخلص من الخوف الذى تشرّبه حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين!
مرت سنوات خمس، تغيّرت مصر خلالها، من الاشتراكية إلى الانفتاح، ومن الحرب إلى المعاهدة، ومع ذلك
ظل أثر النقش على العقول مستمرا، عندما ذهبتُ إلى أستاذ التاريخ حاملا كلمة الصباح المطلوبة للإذاعة المدرسية،
قال لى بعد أن قرأها: «المقال مكتوب كويس، بس إنت اخترت شخصية أدانها الميثاق هى نابليون بونابرت، مش ح ينفع تقولها،
شوف شخصية تانية»، عندما عدت إلى المنزل، عثرت على الميثاق، وقرأته لأول مرة،
ضحك أبى بشدة عندما حكيت الحكاية، قال لى إن مدرس التاريخ خارج التاريخ.
قد أكون أسيرا لتعليم الماضى الذى كنتُ شاهدا عليه، ولكن عندى أيضا حيثيات وشواهد معاصرة تجعلنى
أشعر بالقلق الشديد، أولها أن مدرّس اليوم هو ثمرة تعليم أمس التلقينى المُسيّس، مخاوف الستينيات صاحبت جيل السبعينيات
كما حكيتُ لك، ولذلك أخشى أن يمتد استقرار ونفاق عصر «مبارك» إلى جيل ما بعد الثورة التى جعلت الإخوان والمتأسلمين يتصدرون الصورة.
العنصر الثانى الذى يستدعى القلق هو اهتمام الأحزاب المتأسلمة بحقيبة التعليم، صحيح أنهم لم يحصلوا عليها
صراحةً فى حكومة «قنديل»، ولكنهم قد يحصلون عليها غدا أو بعد غد، ستكون المشكلة وقتها فى نقل رؤية محددة متشددة للدين،
أو استخدامه للترويج لهذا الحزب، أو لتلك الفكرة السياسية، أو توظيفه لمعاداة تيار سياسى آخر،
قرأنا بالفعل أسئلة فى مادة اللغة العربية فى سنوات دراسية مختلفة، تهنئ «الحرية والعدالة» بالفوز،
وتتهم الثوار شخصيا بحرق المجمع العلمى، وقرأنا فى الفترة الانتقالية البائسة أسئلة تهاجم التيارات المدنية
بدعوى عدائها للدين وللإسلام، وكأنها أسئلة وضعها عاصم عبد الماجد وطارق الزمر،
بعض المدرسين يفعل ذلك عن انتماء سياسى وحزبى، والبعض متعاطف مع التيار الذى قالوا له إنه يمثل الإسلام،
وفريق ثالث منافق يحاول ركوب الموجة، والتقرب إلى أهل الذقون والعمائم.
قلقٌ على قلق، ومثلى يقلقُ وأنا أتخيل خطّة ممنهجة لغزوة التعليم، تنتقى من نصوص الدين ما يخدم مذهبها
ورؤيتها واتجاهها السياسى، وتقوم «بتكريه» الطلاب فى الاتجاهات المخالفة، أتخيل أن يسود منهج التشدد والتضييق،
لا منهج التسامح واحترام الآخر، أخشى أن يتطور قص الشعر إلى الجَلْد فى طابور الصباح، أتخيّل أن لا يتم تدريس الموسيقى
أو الفنون التشكيلية، لأنها تصرف الطلاب عن التحصيل العلمى والدينى، أتخيّل أن تصبح الوهابيّة بديلا عن الاشتراكية،
وأن نتحول من كراهية «نابليون» فى الميثاق إلى كراهية «البرادعى» فى كتُب ما بعد الثورة.
التعليم أخطر من أن يُترك لوزارة أو حكومة أو حزب، نحتاج إلى هيئة مستقلة تُشرف على المناهج،
يكون هدفها طالبا جديدا مستقلا فى الرأى وحرا فى التفكير، طالبا يعرف دينه ووطنه وأحلامه ونفْسه، لا يحفظ
وإنما يجادل ويناقش، نريد مناهج تضع الطالب وسط عصره ولا تعزله عنه أبدا، لا بد أيضا من إضافة مادتين هامتين
إلى المنهج الدراسى: مبادئ علوم السياسة، ومادة التسامح، هذا الجيل يستحق أن نحميه من الجهل، ومن التعصب الأسود.
إذا لم نفعل، فإن غزوة التعليم التى أستشعرُ مقدماتها، ستكون الموطن الفعلى لثورة مضادة شاملة،
تستخدم المدارس لكى يصبح الماضى بديلا عن المستقبل.
ساعتها فقط، سنعلن هزيمة الثورة بالضربة القاضية.