بمجرد إعلان نجاح الثورة وسقوط النظام السابق تعالت صيحات الخبراء والقانونيين وامتلأت الساحة ضجيجا،
مطالبين بعمل دستور جديد، محتجين على ذلك بأن الدستور قد سقط ومات ولا يمكن إيقاظه أو استعادته من التجميد،
فضلا عن أن دستور 71 هو دستور كارثى، ومهلهل ويهدم المجتمع وليس هناك أى حل أو طريق
أمام المصريين للخروج من أزمة موت الدستور المهلهل أصلا سوى عمل دستور جديد يصلح لانطلاق مصر نحو القرن الـ22.
هؤلاء الخبراء والقانونيون حولوا مسار تركيز ومطالبات الشعب بتعديل مواد دستورية تخص صلاحيات الرئيس
وعدد سنوات الحكم ومدد ترشح رئيس الجمهورية إلى المطالبة بدستور جديد،
استنادا لآراء الخبراء عن ثقة كاملة فى اخلاصهم ومصداقيتهم.
لم يكن أحد يشك ولو للحظة فى نواياهم أو يشكك فى قدراتهم على تقرير الأمر المناسب للشعب
الذى عانى طويلا من نظام فسد واستبد وملأ نفوس شعبه يأسا جعلهم يعزفون عن الاشتغال أو التعاطى
لشئون السياسة أو القانون، لذلك كان هؤلاء الخبراء والقانونيون محل ثقتهم ومحط أنظارهم وما يصدر عنهم هو مطالب
لا يتوانى الشعب عن الهتاف بها والتهليل لها بل والموت لأجل تحقيقها فلقد نصب
أفراد الشعب هؤلاء الخبراء والنخب فى مكانة عليا فى نفوسهم وقلوبهم.
وبدلا من البدء فى وضع خطط للتنمية أو إصلاح للفساد أو التفكير المجتمعى فى كيفية النهوض بالبلاد
من كل الكبوات الاقتصادية والاجتماعية التى حلت بها طيلة السنوات السابقة وبدلا من طرح حلول
وبدائل وابتكار أفكار إبداعية من كافة طوائف الشعب التى حرمت من توصيل صوتها ورؤاها العلمية والإنتاجية،
بدأ الجميع ينشغلون بمعركة الدستور، مع تزايد الدعوات لوقف كل الممارسات السياسية، ورهنها بوضع الدستور
أولا قبل كل شىء قبل الأكل وقبل الشرب وقبل الأمن وقبل الاستقرار وقبل وجود رؤية مستقبلية لأولويات مصر
على المدى القصير والبعيد. وانقسم المجتمع لأول مرة بعد الثورة بين مطالب بالدستور أولا ومقاتل
فى سبيل ذلك وبين مطالب بالانتخابات أولا لمؤسسات الدولة التشريعية قبل وضع الدستور لتحقيق
الاستقرار التشريعى، وتقرر إجراء استفتاء شعبى وانطلق كل فريق لمناصرة مطالبه وحشدت الحشود
لصالح كلا الرأيين، والواقع أن القوى المطالبة بتعديل الدستور من كلا الفريقين كانت أغراضها مختلفة
بل متناقضة، فالقوى المدنية كانت تريد إعلان مصر دولة مدنية بما يترتب عليه من الآثار القانونية والاجتماعية،
وما يستتبعه من التغيير الجذرى للهوية المصرية، بينما القوى السياسية الإسلامية كانت تريد عمل دستور
يخدم التيار ويحقق المصالح السياسية ويمهد لتمكين تلك القوى، وتوسيع دائرة نفوذها لتسيطر على كل
مقاليد السلطات فى مصر، فى حين أن الشعب كان ما يتمناه هو دستورا يراعى ويحمى ويحفظ كرامة كل المصريين.
دخل كلا الفريقين للشعب من مدخل الحرية وتحقيق سيادة القانون وتقليص سلطات الرئيس القادم
وتضمين مبادئ الثورة من عيش وحرية وعدالة اجتماعية فى الدستورالجديد.
وبالطبع تفاعل الشعب العاطفى بطبعه وتعاطى مطالب الفريقين على أنها مسلمات لا بد من تحقيقها
فقد كان جميعهم يرفعون شعار دستور جديد دون الإعلان عن نواياهم الحقيقية من تغيير شكل ومبادئ الدولة المصرية.
نزل الشباب البرىء والثوار الذين ينشدون رفعة وعزة الوطن إلى ميادين مصر يطلبون الدستور أولا
ويرفضون نتيجة الاستفتاء التى جاءت مخيبة لكل آمال وطموحات من يريدون دستورا قبل أى شىء،
لم يقبل أحد أن نعتبر تلك مجرد مرحلة انتقالية، ولم يصرح أحد بإمكانية استعادة دستور 71 كدستور مؤقت
بعد إجراء تعديلات على نصوص نظام الحكم والأحزاب وممارسة الحقوق السياسية لعدة سنوات
يمكن خلالها إعادة ترتيب أولويات وإمكانيات الدولة، ودفعها فى طريق التنمية والنهضة الاقتصادية والعلمية الحقيقية العملاقة.
تحولت الخلافات على الدستور لمعارك طاحنة وامتلأت الميادين مرة بعد أخرى، تطالب بوضع الدستور أولا
وترفض إقامة الانتخابات، وتوالت الأحداث المؤسفة وتزايدت أعداد من نفقدهم يوما تلو آخر ممن يضحون
بحياتهم من أجل عمل دستور عادل منصف لحقوق المصريين والثأر للشهداء والمصابين الذين سقطوا
من قبل فى أحداث الثورة المتوالية، وتتالت الأحداث تطالب بالقصاص والثأر وإعادة مسار الثورة لمسار
الدستور أولا خوفا من دستور يسيطر عليه فصيل واحد حتى ظهر جليا سيطرة التيارات السياسية الإسلامية
على المجالس التشريعية وبدأت دفة الأمور تتجه لإسقاط إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد،
وبعد أن كان الدستور أولا أصبحت المطالب لا دستور تحت حكم العسكر.
حينها فوجئنا بالخبراء والجهابذة القانونيين يطلون علينا من جديد بإمكانية اللجوء لدستور 71 كدستور مثالى
من إفضل الدساتير التى وضعت فى تاريخ مصر، ومن أعجب الأمور أنه مع كل خلاف يحدث فى تأسيسية الدستور
بعد وجود رئيس منتخب يكون الجميع فى أمان إذا تم إقرار أى من مواد الدستور على ما هو عليه فى دستور 71
بعدما تحولت مصر لساحة حرب والمشهد السياسى لمشهد حزين فى فيلم تراجيدى بائس
بسبب تناطح القوى السياسية وسعى من يملك القوة لإقصاء الجميع.
فإذا كان دستورا يحقق توافقا وطنيا أعلى وأمانا اجتماعيا فقط ينقصه تعديل ضمانات وأسلوب الحكم
بما يكفل الحقوق السياسية للأفراد ويحمى أمنهم وسلمهم الاجتماعى ويحمى جميع مؤسسات وسلطات الدولة
من تدخل السلطة التنفيذية أو هيمنة رئيس الدولة على كل مقدرات البلاد،
فلماذا لا يمكن الاستعانة به لفترة تقل فيها شكوكنا، وهواجسنا فيها جميعا نحو بعضنا البعض؟
ويبقى سؤال: من يحاسب كل هؤلاء الذين تعالت صيحاتهم أن الدستور سقط ومات، ولا يمكن إيقاظه
أو استعادته من التجميد؟ من يسائل كل من أدخلونا فى متاهات الدستور وتركوا الطرق الواضحة وساروا بنا
فى طرق متعرجة؟ هؤلاء الذين أججوا نفوسنا وقسموا صفوفنا وتوهونا عن المسار الآمن لنجاح الثورة
وتحقيق أهدافها بتحسين أحوال المواطنين المادية وصيانة كرامتهم الإنسانية وكفالة حياة كريمة لهم.
هؤلاء الذين لم تحركهم الأمانة ليقولوا الحقيقة فبداية قالوا لنا إن الدستور مهلهل، ثم عادوا ليخبرونا أن دستور 71
من أفضل الدساتير المناسبة لظروف مصر وأن ما نحتاج تعديله فقط فى صلاحيات رئيس الجمهورية،
ولم يخبرونا مطلقا أن المشكلة فى الدستور السابق هى فى التطبيق لا فى النصوص
سوى بعد فوات الأوان وانكسار المجتمع.
لم يتحدثوا عن مزايا دستور 71 أو أنه من الممكن الاعتماد عليه كدستور مؤقت لحين استقرار الدولة وإنجاز الأولويات
الوطنية سوى عندما أصبحت مصر على شفا الهاوية، ولم تتحقق الأغراض المنشودة لديهم فى الدستور الجديد.
لقد حول هؤلاء الدستور القادم لكابوس جاثم على صدور المصريين يقتل آمالهم فى غد أفضل
وهم يخافون ما سيأتى لهم به يطاردهم فى صحوهم ونومهم فى حين أنه كان الأولى بنا إجراء تعديلات دستورية،
وإعادة الدستور للعمل كدستور مؤقت لعدة سنوات حتى تتضح الرؤى السياسية والأولويات
المستقبلية للدولة المصرية، بما يمكننا من صياغة دستور يصلح لعشرات السنوات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]