أمّا موادّ الدستور نفسها، فالتعليق عليها يحتاج إلى المتخصصين أهل الثقة منعا للإفتاء المغرض من طرف أو الملاوعة
المضللة من طرف آخَر، ولكن الظرف الذى تمت فيه صناعة الدستور لا يحتاج إلى خبير،
ولا يمكن تقييم الدستور كمنتج بمنأى عنه أبدا.
أولا: رجال التأسيسية الذين قضوا 48 ساعة شبه متواصلة على الهواء ينهون مهمتهم كانوا مصدرا للإحباط الوطنى،
سهروا ليلتين متعاقبتين يسابقون الوقت لا خدمة للوطن ولكن لحفظ ماء وجه الرئيس وإنقاذه من المأزق
الذى وضع نفسه وإيانا فيه، لم يبذلوا هذا الجهد القاتل إلا لخدمة الرئيس وأنصاره، فبعد أن أمهلهم الرئيس
شهرين لإعادة التوافق وترتيب أوراق عمل اللجنة من جديد وحل مشكلاتها سحب الرئيس كلامه
بعدما شهد تكتل الشعب ضد قراره يوم الثلاثاء الماضى، وهكذا رضخت اللجنة لطلب الرئيس لتسانده فى هذه المواجهة،
استخدمهم الرئيس كسلاح فى المواجهة وقبلوا الدور بمنتهى الامتنان، فمن أين تأتى الثقة بمنتجهم؟
ثانيا: لم يدُر بخلد رجال التأسيسية أن تمرير مسودة الدستور بهذا الشكل وفى هذا الظرف الملتهب
سيجعل مسألة التصويت مضلِّلة، لأننا سنعود من جديد للتصويت على أمور أخرى
ليس من بينها مواد الدستور على الإطلاق، نعود إلى الوراء حيث استفتاء مارس، عندما كان التصويت
على الجنة أو النار، الإسلاميين أو المعارضة، عجلة الإنتاج أو انهيار الاقتصاد، ميدان التحرير أو ميدان الجامعة،
ونتيجة الاستفتاء بهذه الروح معروفة مقدما ولنا فيها خبرة،
ألم يكن أولى بهم أن يديروا الأمر بحيث يتفادون هذا التضليل بحكمة؟
ثالثا: الرئيس وجماعته يساومون الشعب صراحة، إما التصويت بنعم على الدستور وإما استمرار الإعلان الديكتاتورى،
الشعب سيصوت للاستقرار دون شك، وهكذا يكون النظام مجرد معاون مباحث يحصل على الاعتراف تحت وطأة التهديد،
وهذا أمر لا يقبله أى شخص حر، أو كما قال نجيب سرور «يا قُلّة الذل أنا ناوى.. ما أشرب ولو فى الميه عسل».
رابعا: لا يمكن تجاهل المنسحبين بهذه الطريقة المهينة، بالذات عندما يكون بينهم أسماء بقامة د.جابر نصار،
وعبد الجليل مصطفى ومستشارون ورجال قانون مثل ماهر البحيرى، وأساتذة سياسة مثل عمرو حمزاوى والشوربجى
والمهدى، بخلاف ممثل الفلاحين، وممثلى الكنائس المصرية، بخلاف فضيحة أن يكون محمد الصاوى
ممثلا للمسيحيين فى مصر بعد انسحاب الكنائس، والاستهتار بوجهات نظر المنسحبين والتعامل معهم باعتبارهم
مغرضين ومشغولين بإسقاط مؤسسة الرئاسة لا خدمة الوطن، فى حين أننا أشرنا فى النقطة الأولى
إلى من هو حقيقة الذى يعمل فى خدمة الرئاسة، أصدر الرئيس إعلانا دستوريا شدد فيه على موضوع الفتنة الطائفية
وفى الوقت نفسه لا يُلقِى بالا لصدور دستور مصر دون وجود ممثلين لمسيحييها،
ارتباك وتعسف لا يمكن أن يؤدى إلى منتج سليم أبدا.
خامسا: أعلم أن مواد الدستور غالبا ما تكون صياغتها عامة، ثم يبدأ بعد ذلك سنّ القوانين بالتفصيل،
لكن حتى الصياغة العامة نفسها لا تخلو من ركاكة قاتلة على مستوى الطموح، فإذا كانت البديهيات
هى أصل كل دستور، فإن الدستور الذى سيقيم دولة جديدة رويت بذرتها بالدماء لا بد أن يرسم ملامح المستقبل
بعناية أكبر وبتفاصيل ترسم ملامح المستقبل بحدة، وتبشر بكل ما لم يكن مألوفا فى الماضى، فالحياة الكريمة
التى يتحدث عنها غير واضحة المعالم، ولا إلزام واضحا وشافيا للدولة فى أمور العلاج والتعليم والصحة والسكن،
كلها أفكار بديهية لا تؤسس لوطن مختلف، هل قضت اللجنة التأسيسية 40 ألف ساعة
عمل على حد قولها لتخرج علينا ببديهيات؟
سادسا: لم يكن هذا أبدا طموح الشعب عندما قام بثورته، ولم يفكر يوما أن يصدر دستوره الجديد بـ«لوى الذراع»
والمساومة والركاكة واستهداف الهروب من أزمة يواجهها رئيس الجمهورية، أو التحايل على حكم محتمل بأن تشكيل
اللجنة غير سليم وتستحق الحل، فى حين أن اللجنة كانت تستطيع أن تتقى كل هذه الشبهات بسهولة
إلا أنها وقعت فى دائرة الشبهات الأمر الذى يستقيم معه رفض منتجها
حتى لو كان فيه شفاء الأرواح، فما بُنى على باطل انت فاهم بقى.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]