الإعلان الدستورى الأخير: هل من مبررات لإصداره؟ بدون الدخول فى تفاصيل الجدل الفقهى الدستورى، حول ما إذا كان مضمون وطبيعة القرارات التى أعلنها السيد الرئيس أخيرا يصدق عليها وصف أنها قرارات دستورية وبالتالى لا تخضع لرقابة قضائية، أم أنها قرارات بقوانين وبالتالى تخضع لرقابة المحكمة الدستورية، فإنه من الواضح أن هذه القرارات، أو على الأقل معظمها، كان من الممكن أن تصدر فى صورة قرارات بقانون دون حاجة إلى اقحامها تحت عنوان الإعلان الدستورى. ولكن أيا كانت الطبيعة القانونية لهذه القرارات، فإن السؤال الذى يلح على عقول الكثيرين هو البحث عن مبررات إصدارها. إن المبرر الأساسى الذى ردده السيد الرئيس فى خطابه أمام أنصاره يوم الجمعة 23/11/2012،
والذى يردده مستشاروه ومساعدوه وفى مقدمتهم د. باكينام الشرقاوى، وقيادات حزبه، هو أن البلاد فى حاجة ملحة
إلى الاستقرار السياسى، وأن هذا الاستقرار السياسى يتطلب بالضرورة الإسراع فى إنهاء مشروع الدستور
والاستفتاء عليه وإجراء انتخابات المجالس التشريعية، وأن الوسيلة الوحيدة لتحقيق سرعة إنهاء وضع الدستور
هو فى تمكين اللجنة التأسيسية القائمة من إنهاء أعمالها دون تعرضها لرقابة القضاء حول أسلوب وطريقة تشكيلها
وما يعنيه ذلك من احتمال الحكم بحلها. وفى حالة حلها سنعود مرة أخرى إلى نقطة الصفر، والجدل حول
كيفية تشكيل وأسلوب عمل اللجنة... الخ. وهذا من شأنه أن يؤدى إلى إطالة المرحلة الانتقالية التى نعيشها
والتى نعانى فيها من غياب السلطة التشريعية مع احتمال زيادة حدة
ما نشاهده من مظاهر القلق والصراع بين القوى السياسية المختلفة.
ومع اتفاق شريحة واسعة من المجتمع، على ضرورة الإسراع فى تحقيق الاستقرار السياسى، لأهميته البالغة
فى تحقيق الاستقرار الأمنى، والخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية، والمضى قدما فى ترسيخ أسس
ومبادئ ديمقراطيتنا الوليدة... إلخ، ومع اتفاق هذه الشريحة الواسعة على أن الإسراع فى إنهاء مشروع الدستور
والاستفتاء عليه وإجراء انتخابات المجالس التشريعية وفقا له، من شأنه أن يساعد على الإسراع
فى تحقيق الاستقرار السياسى وتدعيم التحول الديمقراطى، إلا أن هناك العديد من الأسئلة التى تلقى ظلالا كثيفة من الشك
حول المبررات الحقيقية لصدور هذه القرارات. إن هناك شواهد عديدة تشير إلى ان الغرض الرئيسى
من وراء هذه القرارات هو ترسيخ سلطة الرئيس وسيطرته على جميع مؤسسات الدولة وليس تحقيق الاستقرار السياسى،
بل على العكس فإن من شأن ما تضمنته هذه القرارات غير المسبوقة من تجميع السلطات الثلاث، التنفيذية
والتشريعية وأخيرا القضائية فى يد الرئيس، أن يتعارض مع هدف تحقيق الاستقرار السياسى، الذى يتطلب بالضرورة
احترام مبدأ الفصل بين السلطات، ولقد رأينا فى الأيام الأخيرة أن هذه القرارات قد أدت إلى تعميق انقسام المجتمع المصرى
إلى مجموعتين متصارعتين وهما مجموعة انصار الاسلام السياسى، وبالذات انصار حزب الحرية والعدالة
ومجموعة انصار الدولة المدنية، وهذا من شأنه ان يعمق من حالة الاستقطاب
وان يحول دون الوصول إلى الاستقرار السياسى المطلوب.
ويستطرد المعارضون لهذه القرارات بالقول بأن الدراسة الموضوعية لجميع ما تضمنته هذه القرارات من بنود،
وتوقيت اصدارها، تشير إلى أن مبرر اصدارها ليس قاصرا على مجرد تحقيق الاستقرار السياسى على فرض التسليم ب
أن هذا هو احد اهدافها، ولكن الهدف غير المعلن الأكثر اهمية هو تأكيد سيطرة الرئيس وحزبه على جميع مقاليد السلطة
على نحو يضمن تحقيق التفوق فى الانتخابات التشريعية القادمة، بعد ان لوحظ انخفاض شعبية الحزب فى
الشهور الاخيرة. ان الرئيس سيظل متمتعا بتحصين ما يصدره من قرارات وقوانين واجراءات وتصرفات
ضد اية رقابة قضائية حتى انتخاب اعضاء المجالس التشريعية القادمة، ودون ان يكون هناك أية حقوق
للأحزاب الأخرى المتنافسة فى الاعتراض قضائيا على ما يصدر عن السيد الرئيس
من شأنه أن يخل بحياد وموضوعية العملية الانتخابية، وهذا هو الخطر الحقيقى.
<<<
وبفرض حسن نية السيد الرئيس وحزبه، وبفرض قبول فكرة تحصين اللجنة التأسيسية ضد الحل القضائى
كثمن باهظ لتحقيق الاستقرار السياسى المنشود للإسراع فى انهاء الدستور، فإن السؤال يظل باقيا وهو لماذا
لم تقتصر قرارات الرئيس على ما يضمن سرعة اصدار الدستور، ولماذا تمتد هذه القرارات لتشمل أمورا لا علاقة
لها مباشرة بهدف تحقيق الاستقرار السياسى؟ وعلى سبيل المثال لنا أن نتساءل عن سبب تحصين مجلس الشورى
ضد احتمال الحل القضائى والمصوغات لحله مماثلة تماما لمصوغات حل مجلس الشعب، ولقد سبق ان قبل الرئيس
ما صدر من احكام تقضى بحل مجلس الشعب ؟ ولنا ان نتساءل لماذا اللدد فى الخصومة تجاه النائب العام والتصميم
على عزله دون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء؟، ولماذا يعطى الرئيس لنفسه حق تعيين النائب العام الجديد
متجاوزا مرة أخرى سلطات المجلس الأعلى للقضاء؟. ولماذا التشكيك فى حياد السلطة القضائية والهجوم المستمر
على رموزها، وفى مقدمتهم قضاة المحكمة الدستورية العليا؟ ولماذا الحرص على تحصين جميع القرارات
والتصرفات والإجراءات والقوانين التى اتخذها الرئيس فى السابق ومنذ توليه الرئاسة، وما سيتخذه فى المستقبل
ضد احتمال الإلغاء أو وقف التنفيذ قضائيا. إن النظرة الشاملة لما أصدره السيد الرئيس من قرارات تشير إلى
أن الاستقرار السياسى لم يكن هو الهدف، أو على الأقل لم يكن هو الهدف الوحيد، وأن الهدف الحقيقى
أو على الأقل الرئيسى هو تأكيد سيطرة الرئيس وحزبه على جميع المؤسسات لضمان الفوز فى انتخابات
المجالس التشريعية القادمة التى تعد نتائجها قضية حياة أو موت لحزبه، مستغلا ما وفرته له القرارات الأخيرة
من الجمع بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية،
وعدم خضوعه فى مباشرته لهذه الاختصاصات الواسعة غير المسبوقة لأية رقابة قضائية.
ان الاستقرار السياسى الذى يتم من خلال السيطرة على مقاليد ومفاصل الدولة، ان تحقق، فإنه سيكون
ذا طبيعة مؤقتة سرعان ما يتلاشى خلالها الأمل فى اقامة حياة ديمقراطية سليمة. ان الاستقرار السياسى الحقيقى
الذى ينشده المجتمع المصرى هو الذى يتحقق فى ظل توافق بين جميع القوى السياسية، والتزام كل قوة
بدورها الحقيقى فى تدعيم الديمقراطية. من يحصل على أغلبية الأصوات له الحق فى أن يحكم وعليه
أن يحترم المعارضة ويعترف بأهمية وجودها ومشاركتها بالحوار فى رسم السياسات. وعلى المعارضة أن تنتقد
على نحو بناء، متعاونة مع من يحكم لتحقيق مصلحة الوطن. أن لكل من الأغلبية والمعارضة دوره فى ظل
النظام الديمقراطى لخدمة الأمة، تحقيقا لاستقرارها ونهضتها
، فى ظل مناخ تعلو فيه مصالح الوطن على المصالح الذاتية الضيقة.
<<<
وأخيرا لقد حاول الرئيس أن يغطى الأهداف الحقيقية لقراراته بغلاف من القرارات التى يعتقد أنها تحظى
بقبول شعبى، وفى مقدمتها قرار الاستمرار فى محاربة الفساد وبكل قوة وتقديم مرتكبيه إلى المحاكمات
الناجزة، وزيادة معاشات شهداء ومصابى الثورة، بل وإعادة محاكمة من سبق محاكمته من رموز النظام السابق
. ومع ترحيبى بقرارات رعاية شهداء ومصابى الثورة، وقرارات تقديم كل من أفسد إلى المحاكمة،
ومع تحفظى على قرارات إعادة محاكمة من سبق محاكمته على نحو مطلق دون احترام شرط توافر أدلة جديدة،
فإن من الصعب القول بأن مثل هذه القرارات يتعين أن تصدر ضمن ما يمكن أن يطلق عليه إعلان دستورى،
كما لا يمكن قبول محاولة الرئيس توفير القبول الشعبى لقراراته غير الشعبية المتعلقة بتوسيع سلطاته وتحصين قراراته،
عن طريق تغليفها بقرارات من شأنها التأثير على قدرة المجتمع على الحكم على الأهداف الحقيقية
لهذه القرارات غير الشعبية على نحو موضوعى ومحايد.