كلام منطقى ومريح إلى حد ما ... كله تجريبى

لم أستغرب فى ظل حالة الاستقطاب المتفاقمة فى بلدنا، طريقة استقبال المصريين للإعلان الدستورى الأخير

ولا لمسودة الدستور. رأيت فريقاً يُهلل ويعتبر الوثائق الجديدة مخرَجاً طيباً من عنق الزجاجة. يقابلهم

فريق آخر يندد ويتوعد بإلقائها فى «مزبلة التاريخ». الفريق الأول يشيد بالرئيس وإيمانه بالديمقراطية،

منوهاً بترحيبه بمسودة الدستور، بما يؤكد أنه لم يكن يريد بالإعلان الدستورى الذى أصدره أن يكون فرعوناً.

أما الفريق الثانى فينتقده ويعتبر أنه تلاعب بإرادة المصريين عندما خيّرهم بين إعلان دستورى

يحتكر فيه كل السلطات ومسودة دستور كتبتها جمعية تأسيسية تطاردها الشكوك.

وليت المستقطبون يتأنون ويدققون فى طبيعة اللحظة قبل أن يهلل بعضهم ويندد الآخر،

فالبلد لا يزال فى مرحلة انتقال. ومراحل الانتقال لا معنى للحديث فيها عن أوضاع ثابتة،

لأن كل شىء فيها تجريبى يتحرك ويتقلب. وكل ما فى مصر الآن تجريبى. رئيس الجمهورية تجريبى.

الكل يجرب معه وفيه، وهو يجرب مع الكل وفيهم.. الأحزاب السياسية أيضاً تجريبية.. تظهر وتختفى وتندمج وتنشق

وستظل على هذا النحو إلى أن تتبلور تركيبة سياسية واضحة المعالم.. والإعلام بدوره تجريبى..

يختبر لأول مرة معنى الحريات الديمقراطية.. سيظل يتخبط إلى أن ينتهى من تجربة كل الوجوه

التى يستضيفها وكل الأفكار التى يطرحونها، وكل القوانين والأشكال التنظيمية التى تجربها الدولة معه.

ويجب أن لا ننسى مجلس الشعب المنحل، فقد كان مجلساً تجريبياً.. جربت قوى سياسية جديدة

من خلاله كل شىء، بما فى ذلك اليمين التى يؤديها النائب.. وجربت معه كذلك المحكمة الدستورية

وقضاة آخرون خارجها جذبتهم التجربة، فابتعدوا عن رسالة القضاء وإن احتفظوا باسمها

عندما انكشفت آراؤهم السياسية، وهم المكلفون بأن يكونوا كالماء بلا طعم أو لون أو رائحة.. حتى مسودة الدستور

التى وضعتها الجمعية التأسيسية تعتبر أيضاً تجريبية. لن يكون مكانها مزبلة التاريخ، لأن بها مواد متميزة

لا يمكن بالتجربة إنكار قيمتها، ولن يكون مكانها قلوب وضمير المصريين، لأن بها مواد أخرى معيبة

لو تركت دون تعديل فقد تفتح الباب أمام صراع اجتماعى بالغ الخطورة والتعقيد.

الكل بات يجرب فى الكل. المعارضة والحكم.. الإخوان والليبراليون.. السلفيون واليساريون..

فمصر التى خلّفها مبارك لا يملك أبناؤها رصيداً كافياً من التجارب السياسية.. ولهذا وبعد أن أزيح عنهم الطغيان

وانفتحت بوابات عالم السياسة أمامهم راح الكل يتعلم ويجرب..

البعض يجرب حظه والبعض يجرب أيديولوجيته والبعض يجرب شعبيته والبعض يجرب تنظيمه وقدراته.

وبسبب قلة التجربة وصلنا إلى حالة الاستقطاب التى نعيشها، وهى حالة محزنة بلا شك، تدعو إلى الحذر والترقب.

لكن يخفف من الانزعاج منها أنها لا تعبر عن انقسام تاريخى عميق بين المصريين، وإنما عن ازدواجية

وقع فيها كثيرون بسبب قلة الخبرة بكيفية إدارة الخلافات السياسية، فالإسلامى ليس عدواً للمدنية..

بعض الإسلاميين فقط يعادونها.. لكن غالبيتهم يقبلون بها ويعيشون بأفكارها. ومن أسميناهم بالمدنيين

ليسوا كفاراً أو عصاة، وإنما أفاضل غيورون على الدين، ولا سبيل إلى التشكيك فى صلابة عقائدهم.

لكنها قلة الخبرة التى دفعت إلى الاستقطاب، اعتقاداً من كل صاحب رأى أن الأوضاع

النهائية أوشكت على الاكتمال، مما دفع بكثيرين إلى التشبث والتصلب.

لكن النهاية لم تقترب. سنظل نجرب لفترة طويلة فى الرئيس والبرلمان والقضاء والأحزاب والإعلام والدستور

وكل شىء، إلى أن يستقر فى الوجدان العام الإحساس بوجود الدولة وهيبتها. عندها ستبدأ موازين القوى تتضح،

وسيبدأ المجتمع يلم على بعضه بعد أن مزقته مرحلة المخاض، وبما أن كل شىء تجريبى،

وبما أننا لسنا أمام الوضع النهائى، فلا أشعر بالقلق على مصر. كل ما أتمناه من كل مَن هم خارج دائرة الاستقطاب

أن يستمروا فى إسداء النصح وإطفاء الحرائق حتى ننتهى من كل تلك التجارب فى أسرع وقت وبأقل الخسائر الممكنة.





[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]