لم أكن أتصور وأنا أكتب فى الأسبوع الماضى عن «الإعلان الدستورى والطبخة المسمومة»،
أن تتابع جماعة الإخوان دس المزيد من السم فى تلك الطبخة الكريهة لتدعيم الإعلان الدستورى، أو بالأحرى الإعلان غير الدستورى،
بشهادة طارق البشرى الذى أسهم عوار تعديلاته الدستورية عقب الثورة فى خلق هذا المسار المعوّج
الذى أدى إلى تمكين الإخوان من إجهاض الثورة وركوبها، والوصول بنا إلى ما نحن فيه الآن من احتراب.
ولم أكن أتخيل، وأنا أحيل كثيرا من ممارساتهم إلى الديماجوجية والفاشية، أنهم سوف يطلعون علينا فى ما دعوه بحشود «الشرعية والشريعة»
بخطاب ديماجوجى بامتياز، بل تكفيرى مقيت. يتجاوز فى ديماجوجيته وتخليطه كل ما عرفته ممارسات الفاشية والنازية من قبل.
ولم تكتف تلك الحشود بالإرهاب اللفظى وتدفق السخائم من أفواه من اعتلى منصتها من ذوى الجلابيب والطرح السعودية القبيحة
، باسم الدين والدين منهم براء. بل قيل إنها جلبت طائرة تصور تلك الحشود وتضرب أرقامها البائسة فى عشرة ك
ى تعلن أنها بالملايين لترهب بعددهم الجموع التى خرجت فى اليوم السابق للدفاع عن ثورتها ورفض تحويل الحاكم إلى فرعون.
فمن أين جاءت هذه الطائرة التى تصور المظاهرة من علٍ؟ ومن الذى دفع تكاليفها الكبيرة عادة؟
بل من الذى دفع أجر الأوتوبيسات الكثيرة التى جلبت تلك الحشود من الأقاليم؟ ناهيك عن التكاليف الأخرى.
أم أنه قد تم استخدام أوتوبيسات الدولة فى نقل الأنصار على طريقة الحزب الوطنى، فيا لها من فاشية مقيتة.
ولم يكتف الحشد بإرهابه اللفظى من فوق منصة ميدان «النهضة» التى لا وجود لمشروعها،
ولا بالإرهاب الرمزى الناجم عن تصوير المظاهرة بالهليكوبتر، وإنما توجهت الحشود فى نهاية تلك المظاهرة
إلى مبنى المحكمة الدستورية المهيب، يعتصمون أمامه ويمارسون عنده تلك البلطجة التى بلغت ذروتها فى منع قضاتها
من الدخول إلى المحكمة صباح اليوم التالى، وفى هتافهم البذىء «يا مرسى إدينا إشارة.. واحنا نجيبهم لك فى شيكارة».
ولم تتملص رئاسة الجمهورية التى أصدرت الإعلان غير الدستورى الذى فجَّر هذا الانشقاق، ولا جماعة الإخوان
التى تديرها من تلك الممارسات، ولم يأمر الرئيس بتفريق تلك الحشود المعتصمة أمام مبنى المحكمة الدستورية حتى الآن،
بل خرج متحدثو الرئاسة والإخوان يبررون تدبيرهم لتلك البلطجة، ولهذا اليوم الأسود فى تاريخ القضاء المصرى،
وتاريخ مصر كلها. فكل هذه الممارسات لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد.
وإنما تنتمى إلى البلطجة السياسية والاستبداد الممنهج، وليس إلى ممارسة حق التظاهر الديمقراطى.
فالحشد والتجييش الذى يعتمد على جلب الجموع من الأرياف والأقاليم دون معرفة الكثيرين من المجلوبين
حتى للغرض الذى جلبوا من أجله، كما كشفت شهادات الكثيرين منهم على مختلف الفضائيات فى تلك الليلة.
ما دام من يوجهونهم بشرائح التليفونات المجانية على اتصال دائم بهم، يخبرونهم بما هو مطلوب منهم فى كل خطوة.
ويطلبون منهم الترديد الببغائى لشعارات الحشد وسخائمه. فهذا الالتزام الأعمى بقواعد السمع والطاعة
هو سمة فاشية بامتياز، ولا علاقة لها بأى شكل من الأشكال بالممارسات الديمقراطية،
لأن الحكومة فى كل النظم الديمقراطية تحكم، بينما يكون من حق المعارضة التظاهر ضد ما تحكم به للتعبير السلمى
عن رفض سياساتها. ولم أر طوال أكثر من ثلاثين عاما عشتها فى الغرب، كثرة ما شاهدت من مظاهرات، مظاهرة واحدة
تحشد أنصار الحكومة لتأييد قراراتها. فقد ارتبطت مثل تلك الحشود فى الغرب كله بممارسات الفاشية والنازية المقيتة.
ولكن ما شاهدته فى مصر منذ خروج محمد مرسى بإعلانه غير الدستورى الكريه على الشعب، الذى أراد به الانقلاب
كلية على الشرعية وإجهاض الثورة، وتحصين قراراته الجائرة كأى مستبد، ليس إلا تنويعا إخوانيا على أبشع الممارسات
النازية والفاشية المقيتة التى دفعت أوروبا ثمنها غاليا من دماء وحروب. والواقع أن الإخوان كانوا واعين بأنهم
ينقلبون على الشرعية، رغم محاولتهم دس بعض العسل فى سم الإعلان الدستورى لتمريره والتمويه عليه، بالزعم أنه
صدر من أجل تحقيق بعض أهداف الثورة من قصاص للشهداء وإعادة محاكمة قاتليهم. ولذلك كان أول ما فعلوه
هو هذا الحشد الكبير أمام قصر الاتحادية، الذى خرج له محمد مرسى خطيبا، فى تنويع آخر على استعراض الاستاد البائس
بعد انتهاء الأيام المئة دون أى إنجاز يذكر، والذى كتبت عنه وقتها محيلا إياه إلى استعراضات هتلر فى ميونخ أيام صعوده الأولى.
وإذا ما كان لدى الرئيس محمد مرسى حقا أى رغبة فى القصاص لشهداء الثورة المصرية المجيدة التى أخرجته من السجن
وجاءت به إلى السلطة، فلماذا لم يتخذ إجراء واحدا فى هذا المجال طوال خمسة أشهر؟ بل لم يمض إلا أسبوع واحد
على انقلابه على الشرعية والدستور، وإقالته للنائب العام دون سند قانونى أو دستورى، وتعيين نائب إخوانى
يدين له بالمنصب وللجماعة بالولاء، حتى كانت أولى القضايا التى أحالها إلى المحاكم، ليست بأى حال من الأحوال
قضايا القصاص لدماء الشهداء، والأمر بجمع الأدلة الجديدة لإعادة محاكمة المجرمين فيها، كما زعم الإعلان غير الدستورى،
وإنما قضايا الانتقام من الخصوم والمعارضين، بنفس حجج مبارك القديمة ضد معارضيه. إذ طلعت علينا صحف الإخوان
وقناتها بأن أولى القضايا التى أحالها النائب العام الجديد طلعت عبد الله إلى المحاكم للتحقيق فيها هى بلاغ المدعو أكرم
حفنى عبد الراضى، ضد المستشار أحمد الزند، وبلاغ المدعو محمد العمدة الذى يتهم فيه زعماء جبهة المعارضة:
محمد البرادعى، وحمدين صباحى، والسيد البدوى، وعمرو موسى، بالتآمر لقلب نظام الحكم، وبنفس مفردات
نظام مبارك القديم الذى ثارت عليه مصر. ليكشف وبسرعة كذب الغطاء الذى استخدمه محمد مرسى فى تمرير إعلانه الدستورى المسموم،
الذى شق الصف، وأسال الدم المصرى النبيل فى الشوارع المحيطة بقصر الاتحادية فى أثناء كتابة هذا المقال.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]