كيف يمكن ملاحقة هذا السيل اليومى من الأكاذيب والاختلاقات؟ وما هذه القدرة الفذة على قول الشىء وعكسه
وعمل الشىء وعكسه وباستمرارية يُحسَدون عليها؟ لا يمكن لكلام أو لكتابة أن يصف دلالة المراوغة
التى لم يفلت منها أنها جزء فى الإدارة المصرية الحالية، بل إن هذه المراوغة والقدرة على
عمل الشىء وضده فى نفس الوقت أصبح مصدرها شبه المعتاد هو قمة أو ذروة هذه الإدارة..
والحقيقة أن بيان السيد مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية الذى وجَّهه إلى الإعلام الخارجى
باللغة الإنجليزية، فوق ورق يحمل صفته الرسمية المنتسبة إلى رئاسة الجمهورية، والذى فى مجمله
يحمّله الاتهام والإهانة لجهة قضائية رفيعة هى المحكمة الدستورية، هذا البيان الذى صدر تطوُّعا
مِمَن يحمل صفة رسمية تابعة لمؤسسة الرئاسة والذى يتهم المحكمة الدستورية بأنها كانت معادية للثورة
وأنها أضمرت إصدار قرارات وحملت نيات و... و... هو بيان حمل طعنة،
ليس فقط للجهة القضائية الرفيعة ولكن لكل مصرى.. لكل مواطن على هذه الأرض المصرية،
لكن الذى تَفوَّق على البيان هو دفوع متحدث الرئاسة الذى بالفعل لا تمتلك إلا أن تقف أمامها فاتحا فمك من الدهشة
وأنت تسمعه ينتقد الذين يصبون النار على الزيت ويسعون إلى إحداث شقاق بين مؤسسات الدولة،
بل إنه يدعو إلى قراءة متأنية للترجمة العربية للنص (علشان طبعا إنجليزيتك الضعيفة)، وتبقى بقوة كل المعانى
التى تداعت من بيان مكتوب للإعلام الخارجى على ورق الرئاسة
يوجه ما يشبه الاتهام -دون أى دليل- إلى المحكمة الدستورية.
هى واقعة تنفرد بها المؤسسة التى تدير مصر وتستحقّ بها أن تدخل موسوعة «جينس»،
لكنها واقعة متجانسة مع سلسلة التصرفات التى تفاجئنا بها هذه الإدارة، وأتصور أن لفظ «إدارة»
أوقع وأكثر مناسبة لما يجرى الآن، وهو لفظ متناسب مع السياق اليومى لظاهرة القرار وضده فى نفس الوقت..
ماذا تريد هذه الإدارة التى يتهم مساعد الرئيس فيها المحكمة الدستورية بأنها معادية للثورة
وأنها كانت تضمر النيات/ ماذا تريد أن تقول للعالم؟ وعمَّ تبحث؟
هل تسعى لغسل يدها من ممارسات متخبطة وضحت ردود أفعالها فى الداخل وأيضًا فى الخارج؟
لا يمكن أن تفصل بين السكوت عن حصار المحكمة الدستورية وما يجرى فى محيطها،
والبيان المنسوب إلى مساعد رئيس الجمهورية تحول محيط المحكمة الدستورية
إلى ساحة تنتهكها الممارسات اليومية للجحافل.
المشهدان وجهان لموقف واحد للإدارة المصرية الآن، ولكل مشهد فيهما وجهان أيضا، فعل ونفى للفعل،
سكوت يشير إلى القبول الضمنى لحصار المحكمة الدستورية -قبول رسمى- ثم إعراب
عن عدم الرضا، وانتقاد بيان من مساعد رئيس الجمهورية يتهم المحكمة الدستورية دون لبس،
ثم نفى لما فهمه الناس (أصحاب الإنجليزية الضعيفة) وانتقاد المتحدث الرئاسى لمن يصبون الزيت على النار
ويسعون إلى إحداث شقاق بين مؤسسات الدولة. لا أعرف لماذا يحضرنى الآن أو يذهب ذهنى إعلان لطيف
لشركة منتجات ألبان وزبادى تروِّج لمنتجها بأنه صُنع خصيصا لمن يريدون الشىء وعكسه،
على نفس المنوال يدور المشهد. المشهد المنهك.. المضحك.. المُبكِى..
مشهد يُدار فيه الوطن بحرفية تقلّ كثيرا عن إدارة شركة ألبان وزبادى.