[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]د . سعد الدين الهلالى
تتميز الشريعة الإسلامية بمميزات كثيرة، من أعظمها أنها تحترم عقل الإنسان وقلبه،
ولا تُلزمه بالامتثال إلا على قدر فهمه واستيعابه؛ فالأوامر والنواهى الشرعية
لا تعنى السمع والطاعة مباشرة دون المرور على مصفاة العقل واختيار القلب.
وإننى على يقين بأن الذين يريدون سلب عقول الناس باسم الدين يرفضون المنطق السوى
الذى يدعو إلى فهم النداء قبل تلبيته، واستيعاب الخطاب قبل تفعيله بالامتثال،
ويزينون لفريستهم منطقهم المقلوب الذى يدعو إلى الامتثال قبل الفهم،
ويشغبون على الناس بنحو ظاهر قوله تعالى:
«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (الأحزاب: 36).
والمشاغبة بظاهر تلك الآية تضليل للعقول وإيراد للنصوص فى غير موضعها؛
فالآية جاءت تنهى المؤمنين عن رفض قضاء الله وعدم التسليم به،
ولم تأتِ لنهى المسلمين عن رفض قول فقهى للعمل بقول فقهى آخر.
وشتان ما بين القضاء المبرم فى الواقعة كالأحكام العقيدية والقطعية،
والفقه الظنى فى المسألة كالأحكام العملية من العبادات والمعاملات.
أما قضاء الله فلا يسع المؤمن إلا التسليم به ليقينيته، ويدل على ذلك سبب نزول الآية؛
فقد نزلت فى زينب بنت جحش عندما خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لفتاه الذى كان قد تبنّاه، قبل تحريم التبنى، وهو زيد بن حارثة، فأبت،
ثم قالت بعد تيقنها من قضاء الله فيها: قد رضيت. وتزوجت زيداً.
وكان القدر قد خبأ على الجميع إلى هذا الوقت أنه لن يدوم زواجها من زيد
وسيتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتقرير حكم الله فى إلغاء التبنى وآثاره قطعاً.
ويدل على وجوب الفهم قبل الامتثال عموم قوله تعالى:
«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 44).
وما أخرجه الشيخان عن ابن عمر، قال: لما رجع النبى -صلى الله عليه وسلم- من «الأحزاب»
قال: «لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة». فأدرك بعضهم العصر فى الطريق،
فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلى،
لم يُرَد منا ذلك. فذُكر ذلك للنبى -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحداً منهم.
هذا هو رسول الإسلام الذى جاء يؤكد تكريم الإنسان،
وأنه لا سمع ولا طاعة لإنسان لا يفهم خطاب الشرع ومقصوده،
ولا عبادة لإنسان لا يعى ما يفعل.
إن الفهم قبل الامتثال للأوامر والنواهى يحميك من تسلط المفتئتين
الذين ينصّبون من أنفسهم أوصياء على الناس ويضيّقون عليهم ما وسّعه الله
من خلاف فقهى. ويجب كشف افتراء هؤلاء بما أخرجه مسلم عن بريدة،
أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك
أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله
ولكن أنزلهم على حكمك أنت فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا».
وإذا ثبت باليقين أن أحداً بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لا يعلم الحق المطلق فإنه يلزم من ذلك عدم صحة الامتثال إلا بالفهم والاختيار؛
لما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى -صلى الله عليه وسلم-
قال له: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك».