عالم الإنسان: 6 ـ وصية يتناقلها مُحِبُّو المعرفة
اعتزل دارون دراسة الطب، وذهب فى رحلة جابَت سواحل العالم لمدة خمس سنوات. لاحظ سلوك البشر، وسلوك الحيوانات والطيور،
والفروق فى أشكالها، دوّن ورسم كل ما رآه، على دقته. ثم سأل نفسه سؤالا بسيطا: ما القانون الذى يحكم تاريخ الحياة على الأرض؟
فى ذهنه نيوتن وفيثاغورس وغيرهما. ثم توصل إلى إجابة. ولم ينشرها إلا بعد عشرين عاما. لماذا؟
أراد أن يجمع «أدلة دامغة»، وعرف أنها ستثير احتجاجات، زوجته أرسلت إليه رسالة تقول إنها تخشى أن تؤدى آراؤه
إلى حرمانها من «العيش الأبدى معه فى الحياة الآخرة». لم تفهم أن العلماء فى أبحاثهم غير معنيين لا بمحاربة الدين ولا بدعمه.
ولا يسألون أنفسهم إن كان ما يتوصلون إليه يتوافق مع الدين أم لا، ليست تلك وظيفتهم. كما أنها ليست وظيفة رجال الدين
أن يحكموا من معابدهم على نتيجة علمية بالصواب من عدمه. العلم يعتمد على التجربة والحقائق المثبتة،
لا على ما تستطيبه النفس وتستسيغه، أو ما تفهمه بالتأويل.
كان دارون ابن عائلة مسيحية تتبنى تقليديا مذهبا لا يؤمن بالتثليث،
وكان أبوه من أنصار «التفكير الحر». ورغم ذلك عمَّده فى الكنيسة الأنجليكانية. ودُفن دارون فى كنيسة ويستمينستر
Westminster Abbey إلى جوار عمالقة الفكر والعلوم الإنجليز. وإلى جوار الملوك أيضا. كان عصر دارون عصر الاكتشافات الجيولوجية
والبيولوجية بامتياز، وكان دارون فى الصدارة.
على ذكر هذا، هل نسيت شيئا فى كل السلسة؟ لقد أهملت قاصدا قصة الحفريات، قصة شائقة وعظيمة سأترك لك البحث عنها بنفسك،
لأن غرضى من السلسلة، كما غيرها، لم يكن إملاء رأى، بل فتح أبواب، وعرضا لكفاح العلم والعلماء. لاحظى أعمار الحفريات،
ولاحظى التغيرات الهيكلية بينها، وتدرج هذه التغيرات. ولا تنسى أن تمرى على القصة الشائقة التى حسب بها العلماء سنّ الأرض،
وكيف استخدموا تغير الاتجاه المغناطيسى للأرض
قبل ملايين السنين فى هذا الحساب. ابحثى عن عبارة radioactive isotopes (النظائر المشعة). ستحبين هذه القصة كثيرا.
وددت لو حدثتك عن مندل، العبقرى الآخر الذى بدأ علم الوراثة بتجربة بسيطة، فى مدينة برنو، فى جمهورية التشيك.
النمط الوراثى الذى اكتشفه ذلك الكاهن لا يخرج عن بساطة نمط التكرار فى كلمة «ماما». لكن فرحة العلماء بالتجربة
وقتها كانت كفرحة الأبوين بهذه الكلمة. والآن، انظرى إلى أين وصل هذا العلم. المقارنة تشبه مقارنة لغة أديبة مرموقة بلغتها
حين نطقت كلمتها الأولى. بعد ٤٤ عاما من تجربة مندل، فى عام ١٩٠٩، صيغت لأول مرة لفظة «جين» التى نستخدمها حاليا
. إذ إن تجربة مندل لم تلفت نظر علماء التطور إلا فى عام تحول القرن. والتقاء علم التطور وعلم الوراثة دفع العِلمين دفعة عظيمة إلى الأمام.
وددت أيضا لو حدثتك عن إميل زوكيركاندل وموريس جودمان وتجاربهما البديعة فى «الأنثروبولوجيا الجزيئية».
ليس فقط لدورها فى تدعيم نظرية الصلة بين الكائنات، ولكن لأنها انفتحت على غير ذلك من علوم الاجتماع والجريمة،
قصة شائقة أخرى من قصص العلم والمجتمع، لتعرفى أن العلم صاحب المساهمة الكبرى فى مكافحة الجريمة والمجرمين.
إنما لا أريد أن أثقل عليك، ربما نعود إليها وإلى الهندسة الوراثية فى المستقبل. لو لنا عمر.
مما كتبت عن عالم الإنسان، أردت أن أؤكد لك شيئا واحدا أكثر من غيره، أن الكتاب الصغير الذى أهديته إليك،
أو الفصل الذى قرأته لك ونحن ندرس، أو الحكاية التى حكيتها لك قبل أن تنامى، أن أيا من هؤلاء خلفه تاريخ طويل
من الكد والتعب، من الحفر والفكر، من الصياغة والنقد. من سهر الليالى، والعراك فى الصباح مع الأصدقاء والمنتقدين
من أبناء الكار المحبين الحريصين على العلم. لم يكن أى اكتشاف سهل المنال. لم يكن العلماء متكئين على الأرائك، بينما المعلومات
تنهمر وتنحشر وتترتب داخل عقولهم. أبدا. أبدا. دارون هو الذى قال «لا حقيقة فى العلم»، يقصد لا حقيقة نهائية.
هناك «أفضل حقيقة» حسب علمنا، فانتقديهم كما شئتِ. إنهم يحبون من ينتقدهم. ولكن شغِّلى عقلك، واتعبى كرامةً لهم ولنفسك،
واجعلى غرضك المعرفة. فرق كبير بين النقد، الذى هو فعل دافعه الحب، وبين البغبغة بكلام فاضٍ. تلك الأخيرة عته سأحزن عليك،
وعلى مستقبلك، وعلى نفسى، وعلى وقتى الماضى، لو كانت اختيارك الأخير.
صباح الخير. أو، لو أنك تفضلين قراءة رسائلى فى المساء، تصبحين على خير.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]