وإليك أقول:
وردت لى رسائل كثيرة، يشكو فيها الأبناء من سوء معاملة الآباء، لكن بصراحة لم تكن فيهم رسالة مثل رسالتك،
فأنت حالة فريدة من نوعها، ليس فقط بسبب شكل الإساءة وغرابته، ولكن أيضا بسبب تعقد الأدوار،
وكونها مركبة إلى حد بعيد، فكل شخص فى هذه القصة له وجهان،
ويلعب دوران، كل منكم جان وضحية فى نفس الوقت.
وسأبدأ بك، بحسب روايتك أنت لم تقترفى إثما، وكل ذنبك هو أنك كنت الابنة الكبرى لهذه الأسرة،
وبالتالى أنت التى جاءت على يديكى الصدمة، صدمة أنه حان الوقت للعودة وإلى التغيير وإلى التأقلم من جديد،
وهذه كلها أشياء لم تكن على الحسبان، وكلها أشياء ثقيلة ومتعبة ومؤرقة، تخل من اتزان أى أسرة بكل تأكيد،
خاصة وبعد أن تبعها حدث أكبر، وهو زواج والدك من أخرى، وهو الشىء الذى لم تستطع والدتك غفرانه،
والتهاون فيه، لهذا فهى تلوم الظروف، والأيام، والأسباب، والتى على رأسها من وجهة نظرها الخاطئة، أنت،
إذا فأنت مذنبة فى نظر أمك، حتى وإن لم يكن هذا صحيحا،
وهو غير صحيح بكل تأكيد، لكنها ترى الأمور بهذا الشكل.
إلا أنك فى حقيقة الأمر ضحية عدم استقرار الظروف، وعدم ترابط الأسرة، وعدم توفر الإمكانيات،
وعدم وجود أى مشاعر أو ألفة فى هذا البيت، كما أنك تعانين وحدك ضغوط التأقلم مع الحياة الجديدة،
والدراسة العملية الشاقة، والالتزام بعمل إضافى أيضا، وهذا ليس بالأمر الهين بكل تأكيد،
لهذا أنا أقدر تماما صعوبة موقفك، وأتفهم معاناتك جدا، وأقول لك تأكدى أنه من حقك الأفضل دائما.
أما بالنسبة لوالدتك، فأنت ترين أنها مذنبة بكل المقاييس، أم عنيفة، جافة، غير متفهمة، مهملة وغير مهتمة
إلى أبعد الحدود، أليس كذلك؟ لكن هل سألتى نفسك من قبل لماذا هى كذلك؟ أنا لا أدافع عنها،
ولكنى سأحاول أن أشرح لك ما يعتمل بداخلها علك تقتربين منها وتفهمينها، أمك تشعر أنها كانت زوجة، وأم لأربعة أطفال،
وامرأة عاملة، وسيدة مغتربة، لسنوات طويلة، تشعر أنها عانت وتعبت كثيرا فى بناء هذه الأسرة،
ومن أجل أن يكون لها مستقبل مأمونا ومستقرا بقدر الإمكان، وفجأة وجدت نفسها مجبرة على التخلى عن استقرارها،
وعملها، وبيتها، وزوجها، وحياتها التى ألفتها لسنوات بأكملها، حتى تبدأ معاناة التأقلم والبداية من جديد،
ليس هذا وفقط، بل وهى محملة بمسئولية أربعة أبناء، وكل هذا وهى وحدها، ولعلها قبلت على أمل أن تنتهى
هذه المهمة قريبا وتعود إلى مكانها من جديد، أو حتى يعود والدك ليعيش بينكم فى يوم من الأيام، إلا أن هذا الأمل
انهار تماما عندما علمت أن والدك قرر عدم العودة نهائيا، بأن اختار أن يكون له حياة أخرى هناك، والأقسى من ذلك
أنها لن يعود لها مكان فى هذه الحياة معه، فهى شعرت أنه طردها من حياته إلى غير رجعة، فإن كنت مكانها
كيف ستشعرين؟ كيف سترين المستقبل؟ هى تشعر أنها ستقضى سنوات طويلة مقبلة تلعب دور (المربية) لك ولأخوتك،
حتى ينهى كل منكم دراسته الجامعية، ويصبح له عمله وحياته الخاصة، ويستطيع الوقوف على قدمه بمفرده،
لتجد نفسها بعد كل هذا وحيدة تماما، بلا زوج، بلا عمل، بلا مستقبل ولا حتى حاضر،
اللهم إلا من بعض الأموال التى جمعتها والتى تحرص عليها الآن بصفتها أمانها الوحيد المتبقى.. كيف تكون الحياة إذا؟
أمك غاضبة، ناقمة، رافضة لكل ما يحدث، ولكنها بدلا من أن تتعامل مع الحدث، تتعامل مع الأسباب الظاهرية له،
تنتقم من الأيام فى صورتك، ولكنه، ولله الحمد، انتقاما سلبيا، يتلخص فى الإهمال
والانسحاب والتراجع، وعدم الرغبة فى ممارسة الحياة كأم حقيقية وإيجابية.
وحتى والدك، الذى تراه أمك مخطئا، مستغلا للموقف، أنانيا لا يفكر إلا فى نفسه وفى راحته، هو أيضا ضحية
فى نفس الوقت، فهل يجب لرجل فى مثل هذه السن أن يعيش مغتربا، بلا أسرة، وبلا زوجة، وبلا أهل ما تبقى له من عمر؟
ألم تفكرى فى صعوبة هذا الوضع من قبل؟، فقد يحتمل الإنسان الظروف القاسية لسنة أو اثنتين
أو حتى عشرة إن كان الوضع مؤقتا، إلا أنه وعلى حسب قصتك لقد بدأ الأمر ولن ينتهى إلا بعد انتهاء
أصغر إخوتك من دراسته الجامعية هو الآخر، أى بعد عمر
، فهل من الممكن أن يظل الرجل وحيدا طيلة هذا الوقت؟
قد يبدو الأمر وكأنى أبرر لكل منهم موقفه، لأنى أتفق معه، إلا أنى فى حقيقة الأمر أرى أن الكل أخطأ فى تقدير
وتخطيط المستقبل، وفى التعامل مع الموقف الحالى، فقد كان لزاما على والديك أن يفكرا فى مثل هذا اليوم
منذ زمن بعيد، وأن يخططا له، فمن المؤكد أنهما كانا يعرفان أن أولادهما سيدخلان الجامعة فى يوم ما،
وأنهما سيحتاجان إلى تدبير أمور معيشتهم، وإلى تغيير الكثير من الأوضاع حينذاك، كان يجب عليهما
أن يتفقا على أن يصبحا معا فى أى مكان وتحت أى ظرف، فإما أن تظلوا هناك جميعا، وتضحوا باختيار الجامعات المصرية،
أو أن تعودوا جميعا إلى هنا، لتبدأوا معا رحلتكم من جديد.. أعرف أن الكلام أسهل من الفعل بكثير،
لكن وللعجب تلك هى المشكلة (المزمنة) للعائلات المصرية المغتربة منذ قديم الأزل، والتى تعصف بأمن واستقرا
ر أسر كثيرة، ولكنه وللأسف لا أحد يتعلم من أخطاء من سبقوه، ولا أحد يخطط لهذا اليوم كما يجب أبدا.
عودة لك يا آنستى، أؤكد لك أنى أقدر صعوبة موقفك، وقسوة حياتك، ولكنى تلمست من خطابك أنك شخصية
ليست بالضعيفة أبدا، فأنت استطعت التأقلم مع تغير البيئة والمجتمع، ومع عدم استقرار المعيشة، ومع المعاملة السيئة،
ومع ندرة الموارد، ومع دراسة صعبة، ومع جهد العمل أثناء الدراسة..أنت إنسانة مميزة بحق، حمولة، ومجتهدة،
ومسئولة، وتفكرين برزانة شديدة، وتستحقين الكثير، ومن المؤكد أنك ستكونين شيئا عظيما يوما ما، فأنت الآن كالحديد
الذى يتعرض للصهر والصقل حتى يصبح أقوى وأجود وأمتن فيما بعد، أؤكد لك أنك لديك الآن خبرات وقدرات
ووعى ليسوا لدى الكثيرين ممن هم فى مثل سنك، صحيح قد تكون التجربة مؤلمة لكنها ستعلمك بلا شك، ستعلمك
أن تعتمدى على نفسك، وأن تبحثى دائما عن أفضل ما عندك، وأن تقدرى قيمة الحب
والمشاعر فى الحياة، لتصبحى أحن وأجمل زوجة وأم فى المستقبل إن شاء الله.
وردا على سؤالك أى الطرق تسلكين؟ أقول لك لا تتسرعى أبدا فى القبول بأى طالب ليدك تحت ضغط الظروف
، أنت ستكونين حينها كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فمهما طالت فترة معيشتك فى بيت أهلك كم ستكون؟
20، 25 سنة؟، لا تقارن إطلاقا ببقية عمرك الذى ستقضينه إن شاء الله فى بيت زوجك،
والذى يجب أن تختاريه بعناية شديدة حتى لا تهربين من سيئ إلى أسوأ.
لا تجعلى احتياجك إلى الكلمة الحلوة والنظرة الحنونة يدفعك إلى التخلى عن أحلامك فى زوج المستقبل،
فأنت تستحقين ذلك، وستجدينه بإذن الله، طالما تمسكت بطموحك وبإرادتك فى أن تكونى أفضل وأقوى مع الأيام،
ولا تقصرى تفكيرك على الوضع الحالى، فما هى إلا سنة أو اثنتين لتتخرجى وتصبحى إنسانة أخرى، تعملين
وتنجحين وتكبرين، وتبدأين رحلة تحقيق ذاتك، وحينها ستندمين أشد الندم
إذا كنت تنازلت وقبلت الارتباط بمن لا ترضينه وتريدينه حقا.
ومن هنا إلى ذلك الحين لا تحرمى نفسك من العواطف والمشاعر الجميلة، ولكن من مصادر أخرى،
لماذا لا تحاولين التقرب إلى إخوتك؟، فحتى إن لم تكونوا متفاهمين، فمن المؤكد أنه هناك منهم
ولو واحد قابل للتفاهم والصداقة، لماذا لا تكسبى رفيقا لك فى بيتك من إخوتك؟، وماذا عن زملائك فى الدراسة
أو فى العمل ؟، لماذا لا تحاولى اكتساب صديقة صدوقة منهم؟، لماذا لا تحاولين تبديد هذه العزلة النفسية
التى أنت فيها بهؤلاء؟ ولو بشكل مؤقت حتى تجدين شريك حياتك المنتظر؟، بل والأكثر من ذلك لماذا لا تجربين
مفاجأة أمك بالتقرب منها؟، لماذا لا تحاولين إخبارها بأنك تفهمين معاناتها، وتقدرين تضحيتها وتعبها؟،
أعلم أنه صعب، لكنه إن حدث سيكون له أثر كبير فى علاقتكما بكل تأكيد.
وأخيرا أدعو الله لك من كل قلبى أن يعينك ويهون عليك تلك الفترة المقبلة، لكن دعينى أطمئنك (هانت إن شاء الله) ،
اصبرى وتحملى فلم يتبق إلا القليل، وإن غداً لناظره قريب.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]