حين وصل إلى شجرة السنط السامقة التى تعلو حقلنا، أناخ جسده، وحط عن رأسه حزمه القصب،
ورفع هامته، تاركا منخريه تسحبان من النسائم على اتساعهما،
ثم رمى رأسه إلى جذع الشجرة، وراح صوت شخيره يعكر المكان.
اقتربت منه، ورحت أتفرس فى خريطة وجهه جيدا. كان البهاق قد زحف على عنقه ووجهه
ومقدمة رأسه، واختلط بالتجاعيد التى خطها الزمن، وبدت على خديه بثور غائرة،
تنبت فى قلبها شعيرات سوداء وبيضاء، يتدلى بعضها قليلا،
ليقترب من شاربه الكث، الذى بدا معلقا فى الهواء أمام خديه الضامرين.
كانت حزمة القصب الكبيرة تنام بجواره هادئة، والنسيم يداعب أوراقها الخضراء
وقشها المائل إلى الاصفرار، فيهتز قليلا، ويحك رأس الرجل، لكنه كان قد غطس إلى قعر النوم البعيد،
ولم يعد يدرك أنه هنا، فوق التراب وتحت الشجرة، وأننى بجواره أقرأ فى صمت وحسرة.
وبعد دقائق، جاء كلب مرقط، شعره أبيض تزركشه بقع سوداء. كان يلهث من العطش،
ومن عينيه يطل جوع شديد. وقف عند رأس الرجل، وراح يحملق فى وجهه مليا، ثم مد
ه،
وراح يلعق شاربه فى هدوء، ثم رمى جسده بجوار الرجل، وراح هو الآخر فى نوم شديد.
حين مالت شمس العصر تحت فروع الشجرة، ومدت
ها الدافئ المبهر إلى عينى الرجل،
تململ قليلا، ثم راح يفتح جفنيه فى هدوء، حتى طوق بصره كامل جسد الكلب، ومد يده
وراح يربت على رأسه، ويداعب أذنيه الطويلتين بأطراف أصابعه، ففتح الكلب عينيه،
ودس رأسه فى صدر الرجل، ثم جلس أمامه القرفصاء، و
ه يتدلى قليلا على حافتى نابيه القاطعين.
جلس الرجل القرفصاء، وجلس الكلب قبالته، واقتربت منهما مندهشا، وقلت له:
ـ كلبك.
فابتسم كاشفا عن أسنان سوداء مثرمة، وقال:
ـ لم أقابله سوى اليوم.
ومد ناظريه إلى حزمة القصب الكبيرة، وكأنه يريد أن يطمئن إلى وجودها سليمة،
كما ودعها قبل الغفوة، ثم مد كفه ووضعها فوق أعواد القصب، وزفر متنهدا فى أسي:
ـ شغلانة تهد الحيل.
ولما وجدنى أنّقل بصرى بين وجهه والقصب، استطرد:
ـ الأسعار نار، وما أكسبه لا يؤكلنى أنا وزوجتى إلا عيش حاف.
فنظرت إلى الكلب الذى يقعد مستكينا على التراب، وقلت:
ـ عندك أرض.
ـ كانت عشرة قراريط إيجار، وأخذهم المالك بعد تغيير القانون.
ومرق قطار ما قبل المغرب، وزعق صارخا وهو يهتز مجلجلا، فنبح الكلب،
وتنبه الرجل، فاستدار، وراح يتابع القطار حتى اختفى، ثم قال:
ـ من زمان نفسى أسافر، حتى ولو إلى آخر الدنيا.
ـ فى السفر سبع فوائد.
هز رأسه وقال:
ـ لم أفارق قريتى منذ مولدى.
وصمت برهة ثم قال متحسرا:
ـ أيام الملك طلبونى للجهادية فهربت ... لو كنت وافقت يمكن كنت شفت الدنيا الواسعة.
كنت هأنزل المحروسة، ويمكن أشوف الملك نفسه، والإنجليز.
التف حوله، ثم راح يهش بعض القش العالق على رأسه وجلبابه،
ووقف موجها عينيه إلى قرص الشمس الأحمر، وقال:
ـ جاء موعد الرزق.
ونظرت إليه صامتا وفى عينى سؤال، فجاءتنى إجابته:
ـ أبيع القصب للشباب الساهرين على قهوة عبود.
ثم مد يديه إلى حزمة القصب وقال:
ـ ساعدنى يا ابني.
ورفعت الحزمة معه حتى استقرت على رأسه، وسحب نفسا طويلا، وكأنه يختزن طاقة تعينه
على استكمال مشواره الطويل، ثم تتابعت خطواته البطيئة، ويمينه يسير الكلب و
ه
يرقص على نابيه، ويهتز فى نسيم راح يهب ناعما مع قدوم أول الليل.