ليس أخطر على أصحاب سلطة من ادعاءاتهم حين كانوا فى المعارضة. والإخوان ليسوا استثناءً من هذا.
لقد قضوا ثمانين سنة يسألون أنفسهم فى الصباح ماذا نقول اليوم للجماهير. والآن صار عليهم أن يسألوا أنفسهم
ماذا هم فاعلون. لقد ظلوا ثمانين سنة فقدوا فيها الأمل فى أن يواجهوا يومًا الحق والمستحق عن كلامهم،
والآن يواجهونه. بعد الأنابيب والزيت والقروض، جاءت أول عملية عسكرية إسرائيلية كبرى فى غزة.
وغزة، كلنا نعرف، استُخدمت آلة دعائية للإخوان على مدار تاريخهم. آخر هتافاتهم أيام مبارك:
«يا مبارك ليه تستنى، وانت معاك أحفاد البنا؟»، أو «سلحونا سلحونا، على الأقصى وابعتونا»،
بالإضافة إلى أم الهتافات «ع الأقصى رايحين.. شهداء بالملايين».
وخطورة الادعاءات لا تقتصر على انفضاحها، وبالتالى تحويل السلطة إلى مهرج يستخف الناس به.
بل خطورتها فى ما قد ينتُج من هذا الاستخفاف من ردود فعل غير مدروسة. وهنا نتذكر حرب ١٩٦٧،
التى اقتيد لها جمال عبد الناصر اقتيادًا بسبب ادعاءاته السابقة وتهديداته اللفظية لإسرائيل التى استغلتها أنظمة عربية ضده،
وشنت عليه حملة إعلامية مهينة -سينال الإخوان نصيبهم منها بلا جدال- حتى ارتكب الحماقة الكبرى
ودخل حربا لم يكن مستعدا لها، وهُزم أقسى هزيمة يمكن أن يتخيلها، وأكثرها إذلالا.
لكن ناصر على قلة كفاءته كان مخلصًا، ربما أهلكه حبه للزعامة اعتقادًا منه أن صدق النية كفيل بتحقيق المعجزات،
وربما أهلكه ما أهلك غيره من متوسطى الكفاءة حين يظنون أن السياسة أمر سهل،
فيتخلون عن مكتسبات الحضارة الإنسانية فى هذا المجال من دستور وحقوق وحريات وديمقراطية وقواعد إدارية،
ويلجؤون إلى «الحكمة الفطرية» والاقتصاد التكافلى. وربما أهلكه الزمن الذى جاء فيه،
حيث فورة التحرر من الاستعمار، والظن بأن الوطنية وحدها ختم جودة فى الزعامة،
وحيث الخروج الفتىّ إلى العالم الخارجى والرغبة فى التحدى كوسيلة لإثبات الذات.
لكن الإخوان الذين اختبروا كغيرهم من الشعب المصرى قوة إسرائيل العسكرية، ووزنها الدولى،
وارتباطاتها السياسية لا عذر لهم. لقد كان أمامهم الوقت للتفكير فى بدائل غير استعادة الخطابة الناصرية بشعارات إسلامية.
وغير استبدال الحديث عن الخلافة الإسلامية بالحديث الناصرى عن الوحدة العربية.
فليس أغبى ممن يعتقدون أن تغيير أسماء الشوارع كفيل بتغيير مصائرها. هذا من ناحية.
لكن من الناحية الأخرى فإن الإخوان الذين لم تستقر لهم سياسة البلد الداخلية،
ولا تزال فى كعكة السلطة قطع لم يبتلعوها، مشغولون بها أكثر من غيرها.
فلا ضير بالنسبة إليهم أن تتحول غزة من من أداة لمعارضة النظام السابق، ومن عنوان «للتضحية»، إلى أداة لإحكام سيطرتهم على النظام الحالى، والفوز بمكسب سياسى ضئيل. عصام العريان -فى تبجح سياسى نادر- أراد أمس أن يستغل صور أطفال غزة ودمائهم ذريعة لإعادة مجلس الشعب المصرى الذى حكم القضاء بحله. فقال فى تصريح له على موقع «تويتر»: «هل يتصور وطنى أن تكون حدودنا الشرقية تشهد بداية حرب وليس لدينا برلمان؟! لماذا لا يَستفتى الرئيس الشعب على عودة البرلمان الذى انتخبه ٣٢ مليون مصرى؟!» يبدو أن مجلس الشعب الذى جاء على دماء ضحايا محمد محمود يراد له الآن أن يعاد على دماء ضحايا غزة. فعلا، إذا لم تستحىِ فاصنع ما شئت. ومن لا يرَ فى دماء الأطفال سوى ثمن لمجلس شعب
لا يساوِ نكلة من الصعب أن تتوقع منه خيرا إنسانيا، فضلا عن السياسى.
لقد فاق الإخوان كل من سبقهم فى الانتهازية السياسية. يريدون من كل ادعاءٍ مكسبا،
ومن كل كذبة تحقيق واقع جديد يخدمهم، ومن كل لَىّ للأحداث استواءً للسلطة فى أيديهم. كأنه لا يعلم أن سلطة التشريع قابعة
فى يد الرئيس الذى ينتمى إلى نفس الجماعة، وأنه لو أراد إعلان حرب لأعلنها.
لقد حان الوقت يا إخوان أن تدفعوا ثمن ادعاءاتكم، لا أن تكسبوا من ورائها المزيد،
هذا ثمن يأتى مع السلطة لا محالة. لقد سقطت ورقة التوت عن عورتكم، سقطت ورقة سوف عن حناجركم.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]